١   ٢   ٣   ٤   ٥   ٦   ٧
قصة متروبولس تكشف سرّ هذه المدينة

سحر مندور



ثلاثة أمكنة احتلتها سينما متروبولس في بيروت: الحمراء في راس بيروت، نزلة وزارة الخارجية في الأشرفية، والآن الباحة الخاصة المفتوحة على السماء في محيط مار مخايل، مقابل مرفأ بيروت. ثلاثة أمكنة، وثلاثة مراحل من عمر جيل واحد. ثلاثة أمكنة، وثلاثة أجيال من عمر مدينة واحدة.

لا شيء في بيروت يعد بالاستقرار أو الثبات؛ كل شيء يتغيّر أو قابل للتغيّر. ومع ذلك، هناك شيءٌ ما فيها يستمر، يصنع ثباتها، ويطوّع التغيير ليكون سمتها المستقرة. مفارقةٌ غامضة، من جملة مفارقات هذه المدينة، قد تتمكن قصة متروبولس من تفكيكها.

راس بيروت الحاسم جدًا

المكان الأول، بالكاد أذكره كـ"متروبولس"، مع أني أذكر أني حزنت جدًا لانتقال السينما منه، إحساسًا مني بأنها "تذهب"، مثلما "يذهب" الناس من بيروت كأنهم سيعودون لكنه ليس ذهابًا وإنما هي هجرة فعليًا، وترى معظمهم لا يعودون. إحساس "الذهاب" مرتبط بالخسارة المموهة: ذهبت، فهل تعود؟ هذا قلقٌ بيروتيّ ومتوارث.

في "مسرح المدينة"، قاعة صغيرة تحت الأرض، جانبية، لم نكن نعرف بوجودها، نحن أهل الثقافة والصحافة والأغاني والمظاهرات في راس بيروت، فاكتشفناها كركنٍ سرّي في منطقتنا المسحورة، مخبأ آمن، ودورٌ جديدٌ ساحر. كأننا نلتقط حلماً براحة واقعٍ قيد الإعمار.

نحن جيلٌ خرج طفلاً إلى بيروت الحرب الأهلية، ثم شبّ في بيروت الورشة، ثم تمرّس في بيروت الجديدة التي حملت شعار "مدينة عريقة للمستقبل". في ذاك الشعار، الذي أطلقه رئيس الوزراء آنذاك، رفيق الحريري، كانت بيروت هي وسط البلد المهدّم تمامًا الذي استحالت زواياه إلى مزابل وأوكار، عراقتها تستدعي زمنًا قيل عنه أنه الذهبي في سبعينيات القرن الماضي، يوم تذوقت طعم الكوزموبوليتانية ورأس المال الحديث، لكنها أيضًا احتوت مثقفين وفنانين من منطقتنا ومن العالم.

وجهان لبيروت وعد الشعار بأن يزدهرا في مستقبل المدينة. وهو مستقبل سيصنعه المال الوافد على سطحها المهشّم.

وفي هذه الأثناء، كنا جيلاً يلتحق بصيحات الأكبر سنًا، لكنه يشد ليصنع هتافاته الخاصة في آن. في المنحيين، كنا عدائيين جدًا لكل طرحٍ حاكمٍ يستدعي أموال ديكتاتوريات منطقتنا ورضا حكّام "العالم الأول". كنا نمارس الحياة يسارًا، لكن بلا دليل للمرحلة، نستعير مما أصدره وعاشه اليسار السابق ونسعى لأن نفصّله على قياس أسئلة الحاضر. كنا، بالتالي، عطشى. عطشى للحياة خارج المنزل، عطشى للمدينة حالت نيرانها بيننا وبينها، عطشى للاستقلالية، للرأي الخاص، للتأخر خارج البيت. عطشى لأن ننوجد، وعطشى لأن نعرف أكثر. وإذا كانت "السياسة" هي تعريفًا الشأن العام، علّمتنا المدارس والشوارع آنذاك أن توأمها هو الثقافة. وبلا ثقافة، تكون السياسة إما ميليشيات أو تجارة. أما نحن، أبطال الحاضر، فسيكون لنا قولنا في صياغة مستقبل هذه المدينة المستيقظة من موتها. لا بد لصوتنا السياسي أن يكون مثقفًا، لا بل شديد الثقافة حتى حدّ الفوقية.

كل شيءٍ حينها بدا لنا مكتملاً ونهائيًا وشديدًا في بيروت. التظاهرة ستصنع التغيير. المقال سيخلق النقاش. الاجتماع سيطول حتى ما بعد منتصف الليل، لكنه سيكون مثمرًا.

هذا الجيل الجاد جدًا، والحر حديثًا، والذي يتبارى بالمعرفة ("حضرت؟ قريت؟ سمعت؟")، كان له في بيروت "الغربية سابقًا" مسرحين أساسيين يقدّمان ما هو غير تجاري، ويلبيان كافة احتياجاتنا الثقافية والسياسية. مسرحان عريقان للمستقبل: مسرح بيروت، الذي أقفل لاحقًا، ومسرح المدينة، الذي انتقل لاحقًا من شارع إلى آخر في رأس بيروت.

وفي بيروت "الغربية سابقًا"، كان لهذا الجيل الجاد حتى في السَكَر نوادي سينما تجتمع مرة في الشهر أو أكثر، تستمر لسنة أو أكثر، كما كانت لنا مبادرات مستقلة في أركان مستجدّة، تسعى إلى فتح ثغرة في المشهد التجاري، وتخلق "جماعةً" خارجه، تنتقل مع المبادرات وتشاهد الأفلام الملتزمة فنيًّا، وبالتالي سياسيًا.

نمط الأفلام هذا، ساهمت متروبولس في مأسسة حضوره بيننا، منحته جذرًا يعد بشيئ من الاستمرارية، في مدينة كانت تنفذ قفزتها في الهواء الطلق، من الدمار إلى ضفّة أخرى كانت معالمها حينها غامضة لنا.

نمط أفلام "متروبولس"، كانت تصلنا منه عناوين قليلة لما نشدّ كثيرًا للمعرفة. الجيل المسيّس كان "يتداول" أسماء مخرجين مثل غودار، تاركوفسكي، بيرغمان—مخرجون امتلكوا رؤية وموقفًا وأسلوبًا، ووقْعوا أفلامهم بأسمائهم. كثّفت أفلامهم لحظات ومشاعر، سواء في السياسة والثقافة أو في الوجودية البشرية، وشكّلت دينامية الشأن العام بين صراعاتهم و تحالفاتهم. ولهؤلاء المخرجين تتمات؛ أسماء استجدت في العالم الخارجي، وقصص قديمة وجديدة هنا، عن مخرجين اشتغلوا في الحرب، ومخرجين بدأوا إثرها.. مخرجون "يصنعون" أفلامهم. باختصار، كانوا هم مخرجو المهرجانات، وكنّا نحن جيل جديد وفد إلى عالم الفن غير التجاري كأداة مقاومة من ناحية، وكمصنع للهوية من ناحية أخرى.

كان يصلنا القليل في زمن بلا تواصل اجتماعي ولا قمر صناعيي متلفز. فجاءتنا متروبولس بالبرمجة كاملةً، أتتنا بالثقافة كلها!

لذلك، كانت كحلمٍ تحقق. أو، بكلمات أقل رومنسية، كمُشتهى تم نيله.

ولأن الزمن كان زمن تغيّرات كثيرة في كل مكان، ما كان المُشتهى يبدو لنا بعيد المنال. فلم نحتفل كثيرًا، وإنما اندمجنا سريعًا، وصرنا نتشاجر حول الأفلام.

الرأي، والحدّة. ما نحبه، نحبه كثيرًا. وما نكرهه، نكرهه جدًا. وهكذا كانت بيروت الخارجة من حرب الـخمسة عشر سنة: من معنا فهو معنا حتى أدق تفصيل، ومن نعمل ضده، نعمل ضده حتى أقصى حد. كل شيءٍ وجودي، كل شيءٍ في أقصاه.

والمدينة التي استحالت بعد خمس عشرة سنة من الدمار تراكمًا للألم والأذى والفجوات والمزابل، لم تكن مختلفة عنا كثيرًا في رد فعلها حين سمعت بوقف اطلاق النار: قفزت مباشرة نحو مستقبلٍ هبط عليها من أحدث صيحات العصر لأغنى أغنياء الكوكب. من الحرب إلى السياحة. من المتراس إلى السهرة. من المزابل إلى الكازينو. كل شيء كان متطرفًا آنذاك. أو هكذا شُبّه لنا.

اليوم، حين أنظر إلى ذاك الزمن، لا أرى التطرّف بقدر ما أرى الاستعجال.

الاستعجال، لأن وقت بيروت ضيّق: حلوها يأفل بسرعة، ونارها تشتعل بسرعة.

هذا الإحساس الدائم بالقلق، "كأن الريح تحتي"، كما قال المتنبي، ارتاحَ قليلاً وتنفّسَ الهواء حين نقلت متروبولس مقرّها إلى سينما صوفيل.

التمسّك بجذور صوفيل

أولاً، اتضح أن متروبولس "مكان" قابل للانتقال، وليس مكانًا ثابتًا في مكانه. وهذا مفهوم يطمئن قلق لحظة التغيير، إذ يستبدل إحساس النهاية بواقع التتمة. أما بعد، فصوفيل هي واحدة من السينمات القليلة التي استمرت خلال الحرب الأهلية، وبقيت في حاضر ناسها كما كانت في ماضيهم. استمرارية نادرة في بيروت، حيث أن كل شيء يتبدّل فيها، حتى أسماء الشوارع ومواقع الوزارات. صمدت السينما في الحرب، وبعد الحرب. سينما معتّقة وراقية، ثابتة ومتجذّرة. عندما أتتها متروبولس وصرنا نداوم فيها وعلى درجها، شعرتُ بأنا نتملّك زاويةً من قصتها، نستمد من جذورها جذرًا لنا، واطمئنانًا لاستمرارية متروبولس.


وبسرعة طبعًا، أخذنا الانتقال والاستمرار كـ"مسلّم به"، وتعاملنا معه كواقعٍ لا يحتاج إلى حماية ليشدّ عوده ولا إلى رعاية ليزدهر. كنا نرتاد متروبولس كأصحاب سلطة في المكان. برمجة المهرجانات؟ طبعًا ستأتينا. كوكتيل الأوروبيات؟ طبعًا. أفلام منطقتنا المغايرة؟ بطبيعة الحال. ونحن لها كلها. كان علينا أن نقدّم الأعذار لشلّتنا إن تغيّبنا عن فيلم، أو أهملنا نقاشًا مع مخرج. وإلا، فالبديل عن المعرفة الكاملة هو واحدٌ من اثنين: الجهل التجاري أو الخشبية الفكرية. "أكيد" سنتابع، سندمن، سنقرأ برنامج العروض ونلوّن اختياراتنا فيه ونعلّلها، سيصبح ورقه ممزقًا من عرق الاستعمال والجيوب في نهاية المهرجان، وكلما اهترى الورق أكثر كلما حضرنا المهرجان "أكتر". كان هناك عمقٌ ما أردنا أن نمتلكه، جوهرٌ ما أردنا أن نزرعه فينا.

هذا "الأكيد"، المغرور شكلاً، كان أسلوبنا في الحماية: حماية الذات من قلق الممكن، وحماية المكان من خفّةٍ قد تمحوه.

كانت هانية ورفاقها من جيلنا، ومن الجيل الأكبر قليلاً، وهم الذين صنعوا المكان. وبدلاً من أن يعاندوا الأكيد، كانوا يلبّونه. وبدلاً من أن يقلقوا من الريح، كانوا يغذّونها.

صاحبة الفكرة عنيدة، كالكثيرات من بنات جيلها اللواتي أنشأن مؤسسات ثقافية في بيروت اليوم التالي للحرب، وهي صدامية عند الحاجة، مبتسمة عند الحاجة، تصنع ما يجري، مثلنا، وتتفاعل مع هذه العلاقة بين المكان وأهله، بلا كثير التخطيط المسبق. اجتهاد، التزام، تنفيذ، وضجيج كبير بعدها، إن بالرأي أو بالرأي الأخر.

حياةٌ ثقافية في بقعة جغرافية، صنعناها سويًا، نحن ومتروبولس، حتى كبرنا نحنٌ، و تجذّرت السينما. هدأنا نحن، والسينما اتسع جمهورها وتوالت أجياله.

مركبٌ على سطح البحر

ومرت الأيام ودارت، و بقيت متروبولس في صوفيل و بقينا نحن في بيروت.

عندما ارتفعت أمواج المدينة على كل من فيها وكل ما فيها منذ 2019، جاء خبر رحيل متروبولس عن صوفيل، مع وعدٍ بالعودة في مكان وزمان آخرين. رغم التأكيد، كثيرون منا لم يصدقوا إمكانية العودة، وأنا منهم. كان كل شيءٍ يقفل علينا، كأن المدينة بأكملها ستذهب ولن تعود. وغمرت الخسارات رؤوسنا لدرجة أن الأمل صار نكتة، والنكات صارت قاسية.

ثم أصابنا الوباء، وهشّمنا الانفجار، وكسّرنا الانهيار، وفتفتتنا الحرب الإسرائيلية.

رأينا المدينة بأكملها تنقلب رأساً على عقب، وكعادتها، تنقلب وتتأقلم بسرعة مع حالٍ جديدة، ثم تنقلب وتتأقلم مجدّدًا. حال جديدة مؤقتة تليها أخرى، ثم أخرى… ظننتُ أن جذور صوفيل ستتمسك بمتروبولس وتحميها من الانقلاب، من الاندثار، من النهاية. لكنه ظنٌّ غير موفّقٍ وأمل في غير محله.

لا تتغيّر الأمكنة في بيروت لافتقادها للجذور أو العمق الزمني والتاريخي. لا يتم ذلك بالصدفة أو لنقصٍ ما. وما عادت المدينة تتفاجأ باندثار معلم وصعود آخر—أو ربما أنا لم أعد أتفاجأ، لأني شهدت على هذه الدينامية، كجميع أبناء وبنات جيلي، أكثر من عشر مرات. نتوقعها، ونتفاجأ بغيابها. بقاء متروبولس في صوفيل كان المفاجأة، وليس رحيلها.

مقهيا المودكا والويمبي مثلاً: عندما أقفلا، ظننا أن روحًا أفلت وهوية اندثرت، وأن شارع الحمراء لن يكون شارع الحمراء الذي يحكي عنه اليسار وإنما شارع الحمراء الآتي مع الخليج. في العمق، قد يكون التخوّف صحيحًا، لكنه تخوّفٌ يعاند الحياة، ولا يسعى لفهمها وامتلاكها كما هي.

في بيروت، لن يبقى مكانٌ على حاله، لأن الحياة بالنسبة لها تكمن في التبدّل. تبقى بيروت، لأنها تتبدّل كثيرًا. تبقى على حالها، لأنها تتأقلم بسرعة، وتقفذ بين الأزمنة. مهما بلغت من العمر ومهما عاشت من تجارب، لم تُعرف يومًا كمدينة عتيقة، مثل القاهرة أو الشام، أو حتى عمّان. لا أقيّم أسلوب الحياة الذي تنتهجه بيروت ولا السياق هنا يتيح تحليله، لكني أصفه كامرأة عاشته لأكثر من أريعين عامًا.

أما متروبولس، كثابتٍ متحرّكٍ في مساحة بيروت، فقد جاهدت منذ يوم تأسيسها وحتى يومنا هذا لتندمج مع أسلوب عيش مدينتها، تعلّمت بالصعب ألا تعاندها، واجتهدت لتبقى فيها، كما يمشي الرياضي على حبلٍ مشدود.

وبدلاً من أن تتمسك متروبولس بجذور صوفيل، تراها مدّت يداها على اتساع المدينة، ربطت توازنها بها، وانتمت إلى حركتها. مكانٌ جديد "خلنج"، مكانٌ تم تركيبه على سطح بيروت، كأنه ينساب فوق تضاريسها الجغرافية والزمانية.

المكان الجديد، زرته. شعرت بفرح شديد، لأن السينما فعلاً عادت، جديدة جميلة مغرية وتكمل قصتها. ورغم العمار والثبات بين حبيبات الحجر الأبيض الصغير التي تفرش الأرض حولها، أحسست بأن هوية متروبولس بدأت تنفصل عن فكرة "المبنى" لتستقر كمكان في "فضاء" بيروت. قد تكون في أي زاوية منها، في أي ساحة فارغة، أو صالة مجهّزة وعتيقة. قد تمضي عقدًا من الزمن في موقع واحد وحيد، وقد تتجلى لليلةٍ في ضيافة مكانٍ أخر. لمن عرفوها منذ ولادتها، وعاشوا بيروت وتبدلاتها معها، يبدو أن متروبولس "كوّنت نفسها"، وصارت قادرة على أن تحلّ أينما شاءت، ومتى شاءت—كجيلها الذي تخطى الأربعين، وما عاد يحتاج إلى كثير من العصبية والتطرّف وضيق النفس ليحمي نفسه من الاندثار.

جيلنا، الذي نزل أيضًا إلى الثورة في 2019، توقّع ألا تنتج الثورة تغييرًا.

جيلنا، برفقة أجيالٍ سبقته وأجيالٍ تلته، حسم كامل الموقف من "النظام" مع انفجار مرفأ بيروت في 2020، وتوقّعنا، بنسبٍ متفاوتة، ألا يُحاكَم منفذوه.

أجيال هذه المدينة هي دائمًا في حالة خروج من حرب، انفجارات، اغتيالات، أو أزمات… هناك من يختار البدء من الصفر، كأن شيئًا لم يكن قبله. وهناك من يتعامل مع الموجود كمسلّم به؛ مؤسسات وأماكن لا قصة لوجودها، ولا ضرر من زوالها. وهناك من يتمسك بالمكان والزمان، بالشعار والقصة، كمن يتشبث بحبل نجاةٍ في وسط رمالٍ متحركة.

أجيالٌ تختلف في طريقة تعاملها مع مدينةٍ تلبّي الجميع وتصدم الجميع، تعد الجميع وتخذل الجميع، وتستمر برفقة هذا كله، ونادرًا ما تغادرها قصصهم.ن وتغادرهم.ن قصصها، حتى لو هاجروا أو هجروها. قد يبدو ذلك وصفًا رومنسيًا لمًعاشٍ مؤذٍ، في مدينةٍ دمارُها شامل وعمارُها انتقائي. ولعله كذلك. وإلا، كيف يستمر العيش في مكانٍ تصنع جروحُه ملامح ناسه؟

جيلي صار يرى السياق يمضي أمامه، بحكم العيش فيه. ورغم لحظاتنا الرومنسية، ترانا لم نصبح أكثر مهادنة. ما زلنا في الشوارع وعلى قمة المطلب وفي صلب الثقافة، لكننا أصبحنا أكثر ثقةً بوجودنا، باستمرارنا، مهما تبدّل وجه السياسة، مهما تعثر وضع الاقتصاد، ومهما تغيّر موقع الثقافة. وما ظهور متروبولس على ضفاف المرفأ، إلا اكتمالاً لهذه الدائرة: نشدّ على ما كان، لنخطو نحو ما سيكون، وقد لا نترك خطّ مسيرٍ خلفنا. والإجابة على سؤال "ماذا بعد؟" أو "إلى أين؟"، اتضح أنها: فلنر..

بغض النظر عن رمال الجغرافيا المتحركة، بغض النظر عن الصواعق الآتية من خارج اليوميات، تتكوّن القصص في هذه المدينة وتستمر—بمرونةٍ تحتاجها هذه المدينة الصغيرة المفتوحة على البحر. الثقل هنا خانقٌ. ينزل بالمرء إلى إحساس الملجأ أو القبر. ولذلك، فإن المتحرّك، المَرِن، المتأقلم هو شرطٌ من شروط الاستمرار هنا.

قد يكون هذا سرُّ التغيير المستمر في مدينةٍ تصوغُ نفسَها. وعلى إيقاعه، تتهادى متروبولس على وجه بيروت كما يتهادى مركب الصيد على سطح بحرها.


سحر مندور
سحر مندور باحثة وصحافية وروائية لبنانية-مصرية. درست علم النفس في جامعة القديس يوسف (بيروت)، وحصلت على ماجستير في الدراسات الصحافية من جامعة لندن (المملكة المتحدة). عملت في جريدة السفير (بيروت) من سبتمبر/أيلول 1998 حتى يناير/كانون الثاني 2017. ونشرت أربع روايات بين العامين 2007 و2012. منذ العام 2017، هي الباحثة المختصة بالشأن اللبناني في منظمة العفو الدولية.


Sahar Mandour is a Lebanese-Egyptian researcher, journalist, and novelist. She is currently the Lebanon and Jordan researcher at Amnesty International. She studied psychology at the Universite Saint Joseph (Beirut-Lebanon) and holds an MA in Media Studies, with a focus on gender, from the University of London (UK). Sahar worked as an editor at Assafir newspaper (Beirut) from September 1998 till January 2017. She also published 4 novels between 2007 and 2012.

Copyright ©