المحليات واللامحليات: طمأنينة اللااستقرار
Localities and Dislocalities: A Reassuring Impermanence
افتتاحية بقلم نور عويضة
عندما أحاول استرجاع تجربة مشاهدة فيلم معين، كثيرًا ما تتمحور ذاكرتي حول المكان الذي شاهدته فيه، وكأن ذلك الفضاء يشكّل المدخل الذي تنفتح منه ذاكرتي على الفيلم. أين كنت عندما شاهدت هذا الفيلم؟ غالبًا ما يكشف هذا السؤال عن الظروف التي أحاطت بتجربتي، والتي لعبت دورًا أساسيًا في الطريقة التي ترسّخ بها الفيلم داخلي.
في يناير 2025، شاهدت فيلم غسّان سلهب الأخير "الليل هو النهار" (2024) في موقع سينما متروبوليس الجديد في بيروت. خلال استراحة منتصف الفيلم، الذي امتدّ لست ساعات، خرجنا إلى فناء المبنى الجديد في منطقة مار مخايل، لنجد أنفسنا محاطين بالأماكن ذاتها التي رأيناها على الشاشة. وقفنا هناك، بين مرفأ بيروت الذي لا يبعد سوى 500 متر إلى يميننا، وساحة الشهداء على بعد كيلومترين إلى يسارنا، بعد أن رأينا أنفسنا في الفيلم نسير في هذه الشوارع خلال انتفاضة تشرين الأول 2019. غمرني شعور غريب ومفاجئ برابطة غريبة وعميقة مع هذه المدينة، رابطة ظننت أنني فقدتها منذ زمن.
مشاهدة فيلم في سينما قديمة وسط القاهرة ليست كتجربته في مركز ثقافي في المدينة العتيقة في تونس؛ ولا تشبه عرضًا خاصًا في غرفة معيشة ببغداد؛ أو حضورًا في مركز أرشيفي في برلين؛ أو في مسرح صغير أعيد تأهيله في بيروت. الأفلام التي نشاهدها تكون في حوار دائم مع الفضاءات التي تُعرض فيها، تمامًا كما تتأثر هذه الفضاءات بسياقاتها المحيطة وتستجيب لها، لتؤثر بدورها في من يستعملها ويزورها.
في شبكة ناس، يمكن تلمّس طيف واسع من العلاقات مع المكان والفضاء. بعض المبادرات انطلقت من ترميم مواقع لعبت دورًا مركزيًا في تشكيل هويتها، مثل سينماتيك طنجة، ووكالة بهنا، وسينما إشبيليا، وسينما القدس – مركز يبوس الثقافي. مبادرات أخرى ركّزت على إنشاء فضاءات جديدة للسينما البديلة في المدن، مثل سينما متروبوليس، وسينما زاوية، وسينما عقيل، وسينيمدار، وسيماتيك. في المقابل، هناك من تبنّى أساليب ترحالية أو لامركزية، مثل الجامعة التونسية لنوادي السينما ومنصة الفيلم الفلسطيني. وهناك من يركّز على بناء فضاءات للتعلّم وتبادل المعرفة، مثل فيلم لاب فلسطين، جمعية "مسارب"، ومصنع الفيلم السوداني. ورغم أن كل من هذه المبادرات متجذرة في سياقها المحلي، إلا أنها جميعًا تعمل ضمن أراضٍ تتشكّل، وغالبًا ما يُعاد تشكيلها، بفعل تحوّلات اجتماعية وسياسية مستمرة.
في العدد الثالث من "ملفّات"، دعونا سبعة مساهمين للتفكير في كيفية تعامل أعضاء الشبكة المختلفين مع الأمكنة التي ينشطون فيها. تحت عنوان "محلّيات ولا-محلّيات"، يستكشف هذا الملف العلاقة الجدلية بين المحلي واللامحلي، وكيف يشكّل كلّ منهما الآخر عبر ممارسات السينما، ساعيًا إلى توثيق هذه التفاعلات وتأثيراتها على الفضاءات السينمائية، من شاشات، وعاملين، وجماهير.
بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاقة سينما زاوية، تشارك ملك مقار بالتعاون مع فريق السينما، في ما تصفه بعملية "تذكّر عبر الأزمات"، من خلال نص يأخذنا في رحلة عبر خط زمني من "الكوارث" يوضح كيف يُعرّف المكان ليس فقط من خلال محليته المادية، بل أيضًا من خلال جماعية لامادية تتكوّن حوله.
ومع انتقال سينما متروبوليس إلى موقع جديد، تتناول مساهمتان مسارها عبر بيروت، وتوثّقان الفضاءات الثلاثة التي احتضنتها عبر السنوات. يقدم سامر بو صالح مقالة مصوّرة توثّق هذه الأمكنة وتفاصيل أحيائها المحيطة، بينما تتأمل سحر مندور في فكرة قابلية متروبوليس للانتقال من مكان إلى آخر كشرط ضروري لاستمراريتها في مدينة كبيروت.
في هذا العدد من "ملفّات"، يغوص طلال عفيفي في مشروع استعادة إرث المخرج السوداني المنفي حسين شريف. تتحوّل أفلام شريف إلى فضاءات تتجسّد فيها أماكن النزوح على الشاشة، داعيةً إلى الإصغاء إلى سرديات مهمّشة غائبة عن التاريخ السياسي والاجتماعي المعاصر في السودان.
في مقال إنصاف مشطة، نُسافر عبر سنوات من عمل جمعية "مسارب" مع جمهور من الشباب، ونقف عند التحديات المستمرة في خلق واستدامة فضاءات مادية وغير مادية للتبادل حول السينما مع جيل جديد من المشاهدين والمشاهدات.
أخيرًا، يشكّل دفتر عُثر عليه صدفة نقطة الانطلاق للنص التخميني الذي كتباه ريمان ساداني وعلي شمَيِّلْ. يتتبّع النص رحلة فيلم بلا نهاية، وسعي كاتبه للعثور على فضاء عرض ملائم له في بغداد. يفحص الكاتبان الحدود بين الخاص والعام، الفردي والجماعي، ويرسمان خريطة البحث الصعب عن فضاء مستقل لثقافة السينما في عراق اليوم.
تتحدى هذه المساهمات الخمس الافتراض السائد بأن المحلية تقتضي الاستمرارية بالضرورة، أو أن اللامحلية تعني الزوال حتمًا. تكشف الممارسات السينمائية التي يتناولها هذا الملف الطبيعة المتحوّلة وغير المستقرة لبعض الفضاءات، ويساهم ذلك بشكل متناقض، في ترسيخها ضمن حالة من الحركة الدائمة. في سياق يتسم بالنزوح المتواصل، وتبدّل الحدود، وتغيّر الأنظمة في أنحاء مختلفة من المنطقة، كيف يمكننا إعادة تصور الحركة لا كفقدان، بل كقوة خلاقة؟ وكيف يمكن أن تصبح محفزًا ومسارًا نحو أشكال لم تتبلور بعد؟
في يناير 2025، شاهدت فيلم غسّان سلهب الأخير "الليل هو النهار" (2024) في موقع سينما متروبوليس الجديد في بيروت. خلال استراحة منتصف الفيلم، الذي امتدّ لست ساعات، خرجنا إلى فناء المبنى الجديد في منطقة مار مخايل، لنجد أنفسنا محاطين بالأماكن ذاتها التي رأيناها على الشاشة. وقفنا هناك، بين مرفأ بيروت الذي لا يبعد سوى 500 متر إلى يميننا، وساحة الشهداء على بعد كيلومترين إلى يسارنا، بعد أن رأينا أنفسنا في الفيلم نسير في هذه الشوارع خلال انتفاضة تشرين الأول 2019. غمرني شعور غريب ومفاجئ برابطة غريبة وعميقة مع هذه المدينة، رابطة ظننت أنني فقدتها منذ زمن.
مشاهدة فيلم في سينما قديمة وسط القاهرة ليست كتجربته في مركز ثقافي في المدينة العتيقة في تونس؛ ولا تشبه عرضًا خاصًا في غرفة معيشة ببغداد؛ أو حضورًا في مركز أرشيفي في برلين؛ أو في مسرح صغير أعيد تأهيله في بيروت. الأفلام التي نشاهدها تكون في حوار دائم مع الفضاءات التي تُعرض فيها، تمامًا كما تتأثر هذه الفضاءات بسياقاتها المحيطة وتستجيب لها، لتؤثر بدورها في من يستعملها ويزورها.
في شبكة ناس، يمكن تلمّس طيف واسع من العلاقات مع المكان والفضاء. بعض المبادرات انطلقت من ترميم مواقع لعبت دورًا مركزيًا في تشكيل هويتها، مثل سينماتيك طنجة، ووكالة بهنا، وسينما إشبيليا، وسينما القدس – مركز يبوس الثقافي. مبادرات أخرى ركّزت على إنشاء فضاءات جديدة للسينما البديلة في المدن، مثل سينما متروبوليس، وسينما زاوية، وسينما عقيل، وسينيمدار، وسيماتيك. في المقابل، هناك من تبنّى أساليب ترحالية أو لامركزية، مثل الجامعة التونسية لنوادي السينما ومنصة الفيلم الفلسطيني. وهناك من يركّز على بناء فضاءات للتعلّم وتبادل المعرفة، مثل فيلم لاب فلسطين، جمعية "مسارب"، ومصنع الفيلم السوداني. ورغم أن كل من هذه المبادرات متجذرة في سياقها المحلي، إلا أنها جميعًا تعمل ضمن أراضٍ تتشكّل، وغالبًا ما يُعاد تشكيلها، بفعل تحوّلات اجتماعية وسياسية مستمرة.
في العدد الثالث من "ملفّات"، دعونا سبعة مساهمين للتفكير في كيفية تعامل أعضاء الشبكة المختلفين مع الأمكنة التي ينشطون فيها. تحت عنوان "محلّيات ولا-محلّيات"، يستكشف هذا الملف العلاقة الجدلية بين المحلي واللامحلي، وكيف يشكّل كلّ منهما الآخر عبر ممارسات السينما، ساعيًا إلى توثيق هذه التفاعلات وتأثيراتها على الفضاءات السينمائية، من شاشات، وعاملين، وجماهير.
بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاقة سينما زاوية، تشارك ملك مقار بالتعاون مع فريق السينما، في ما تصفه بعملية "تذكّر عبر الأزمات"، من خلال نص يأخذنا في رحلة عبر خط زمني من "الكوارث" يوضح كيف يُعرّف المكان ليس فقط من خلال محليته المادية، بل أيضًا من خلال جماعية لامادية تتكوّن حوله.
ومع انتقال سينما متروبوليس إلى موقع جديد، تتناول مساهمتان مسارها عبر بيروت، وتوثّقان الفضاءات الثلاثة التي احتضنتها عبر السنوات. يقدم سامر بو صالح مقالة مصوّرة توثّق هذه الأمكنة وتفاصيل أحيائها المحيطة، بينما تتأمل سحر مندور في فكرة قابلية متروبوليس للانتقال من مكان إلى آخر كشرط ضروري لاستمراريتها في مدينة كبيروت.
في هذا العدد من "ملفّات"، يغوص طلال عفيفي في مشروع استعادة إرث المخرج السوداني المنفي حسين شريف. تتحوّل أفلام شريف إلى فضاءات تتجسّد فيها أماكن النزوح على الشاشة، داعيةً إلى الإصغاء إلى سرديات مهمّشة غائبة عن التاريخ السياسي والاجتماعي المعاصر في السودان.
في مقال إنصاف مشطة، نُسافر عبر سنوات من عمل جمعية "مسارب" مع جمهور من الشباب، ونقف عند التحديات المستمرة في خلق واستدامة فضاءات مادية وغير مادية للتبادل حول السينما مع جيل جديد من المشاهدين والمشاهدات.
أخيرًا، يشكّل دفتر عُثر عليه صدفة نقطة الانطلاق للنص التخميني الذي كتباه ريمان ساداني وعلي شمَيِّلْ. يتتبّع النص رحلة فيلم بلا نهاية، وسعي كاتبه للعثور على فضاء عرض ملائم له في بغداد. يفحص الكاتبان الحدود بين الخاص والعام، الفردي والجماعي، ويرسمان خريطة البحث الصعب عن فضاء مستقل لثقافة السينما في عراق اليوم.
تتحدى هذه المساهمات الخمس الافتراض السائد بأن المحلية تقتضي الاستمرارية بالضرورة، أو أن اللامحلية تعني الزوال حتمًا. تكشف الممارسات السينمائية التي يتناولها هذا الملف الطبيعة المتحوّلة وغير المستقرة لبعض الفضاءات، ويساهم ذلك بشكل متناقض، في ترسيخها ضمن حالة من الحركة الدائمة. في سياق يتسم بالنزوح المتواصل، وتبدّل الحدود، وتغيّر الأنظمة في أنحاء مختلفة من المنطقة، كيف يمكننا إعادة تصور الحركة لا كفقدان، بل كقوة خلاقة؟ وكيف يمكن أن تصبح محفزًا ومسارًا نحو أشكال لم تتبلور بعد؟
In January 2025, I watched Ghassan Salhab’s latest film essay Night is Day (2024) at Metropolis Cinema’s new location in Beirut. During the 30-minute break that split the six-hour film in two, we stepped into the courtyard of the recently opened venue in Mar Mikhael, finding ourselves in proximity to the very spaces projected on the screen. There we stood, between the Beirut Port, just 500 meters to our right, and Martyr’s Square, 2 kilometers to our left, after watching ourselves in the film as we marched through these streets during the October 2019 uprising. I was overcome with an uncanny sense of connection to this city more than ever before, a feeling I thought I had lost since then.
Watching a film in an old cinema in downtown Cairo feels entirely different from seeing it at a cultural center in Tunis’ old town; a private living room in Baghdad; an archive center in Berlin; or a small, rehabilitated theater in Beirut. The films we watch are in constant dialogue with the spaces that host them, just as these spaces are continuously shaped by, and respond to, the environments in which they exist. They are affected by these surroundings, and in turn, they affect them.
Among the diverse members of the NAAS network, we can identify a wide range of relationships to space and place. Some are rooted in the rehabilitation of specific sites that have shaped their identity, such as Cinemathèque de Tanger, Wekalet Behna, Ishbilia Theatre and Art Hub, and Cinema Al Quds – Yabous Cultural Center. Others focus on establishing new venues for alternative cinema within urban contexts, including Metropolis Cinema, Zawya Cinema, Cinema Akil, CinéMadart and Cimatheque. A number of initiatives embrace nomadic or decentralized screening formats like Fédération Tunisienne des ciné-clubs and Palestine Film Platform. Meanwhile, others focus on cultivating spaces for skill-building and knowledge exchange, such as FilmLab Palestine, Sentiers – Massarib, and Sudan Film Factory. While each of these entities is deeply embedded in its local context, they all operate within territories shaped, and often reshaped, by ongoing socio-political transformations.
In this issue of Malaffat, we invited seven contributors to reflect on how different members of the network engage with the places in which they operate. Under the title Localities and Dislocalities, this dossier explores the dialectic between the local and the dislocal, examining how these concepts shape one another through the lens of cinema practices. It seeks to discuss and record this interplay and its effects on cinematic spaces—screens, workers and audiences.
To mark their 10th anniversary, Malak Makkar, in collaboration with the rest of Zawya Cinema’s team, engages in what she describes as an act of “remembering-through-crises” in a text that guides us through a timeline of ‘disasters’ that reveals how a place is defined not only by its material locality but also by the para-material collectivity that forms around it.
As Metropolis Cinema relocates to a new venue, two contributions trace its journey across Beirut, mapping the three spaces it has inhabited over the years. Samer Bou Saleh presents a photo essay that documents these locations, closely examining the material conditions of each surrounding neighborhood. In parallel, Sahar Mandour poses Metropolis’ transferability—its ability to move across locations—as the necessary, and reassuring, condition for its continuity in a city like Beirut.
In the fourth piece of this dossier, Talal Afifi delves into the restoration of the artistic and cinematic legacy of the exiled Sudanese filmmaker Hussein Shariffe. Shariffe’s films become the site in which spaces of displacement materialize on the screen, inviting us to listen to marginalized narratives that are absent from contemporary Sudanese political and social history.
In Insaf Machta’s essay, we are taken through the years of Sentiers – Massarib’s work with young audiences, and the ongoing challenges of creating and sustaining both material and immaterial spaces for exchange around cinema with a new generation of spectators.
Finally, a found notebook becomes the starting point for Reman Sadani and Ali Shmayyel’s speculative piece. Their text traces the journey of a film with no ending and the search of its author to find an adequate screening space for it in Baghdad. The writers examine the limits between the private and the public; the individual and the collective; mapping the difficult search for an independent space for film culture in today’s Iraq.
Together, these six contributions challenge the assumption that locality inherently requires permanence, or that dislocality inevitably entails impermanence. The cinematic practices explored in this dossier reveal how the shifting, unstable nature of certain spaces paradoxically anchors and roots them in a state of perpetual motion. In the context of ongoing displacements, shifting borders, and regime changes across the region, how might movement be reimagined not as a lack, but as a generative force? How can it serve as a catalyst—a pathway toward forms still waiting to be discovered?
لعدد الرابع من ملفات
ربيع ٢٠٢٥
المحليّة والامحليّة
من إعداد شبكة الشاشات العربية البديلة "ناس"
تحرير: نور عويضة
تنسيق: ميّ الجمال
ترجمة للعربية: زهور محمود
تدقيق وتصحيح لغوي للغة العربية والإنجليزيّة: زهور محمود
تصميم: إنجي سرحان
الخطوط: ABC Diatype Regular, DIN Arabic, KO Khalaya
ربيع ٢٠٢٥
المحليّة والامحليّة
من إعداد شبكة الشاشات العربية البديلة "ناس"
تحرير: نور عويضة
تنسيق: ميّ الجمال
ترجمة للعربية: زهور محمود
تدقيق وتصحيح لغوي للغة العربية والإنجليزيّة: زهور محمود
تصميم: إنجي سرحان
الخطوط: ABC Diatype Regular, DIN Arabic, KO Khalaya
Spring 2025
Localities and Dislocalities
Published by NAAS—Network of Arab Alternative Screens.
Editor: Nour Ouayda
Coordination: Mai El Gammal
Arabic and English Copy editor: Zuhour Mahmoud
Arabic Translation: Zuhour Mahmoud
Designer: Engy Sarhan
Fonts: ABC Diatype Regular, DIN Arabic, KO Khalaya
ا