١   ٢   ٣   ٤   ٥   ٦   ٧
بين الخيال التحرّري واستبطان العنف والأفكار المسبقة: جمهور الأطفال واليافعين وقراءة الأفلام
إنصاف ماشطة




جعلتنا تجربة العروض الموجهة للأطفال واليافعين ننظر إلى تلك الأنشطة باعتبارها مختبرًا نرصد من خلاله إشارات دالة على تشابك الأعمال السينمائية وذوات الأطفال واليافعين واليافعات وقراءاتهم لواقع متغير، فيه نفسان متناقضان ومتعايشان، يتأرجحان بين التحرر واستبطان العنف والأفكار المسبقة. قبل وصف هذا المختبر وما أفرزه من رصد وفهم لتلقي الأفلام من قبل هذه الفئات العمرية في تونس، سنسعى في بادئ الأمر الى تنزيل هذه التجربة في سياق عملنا الجمعياتي.ا

انطلقت تجربتنا في نشر الثقافة السينمائية لفائدة الأطفال خلال السنة الأولى لتأسيس جمعية "مسارب" عام 2017. شكلت هذه الأنشطة جزءًا صغيرًا من جهودنا الموجهة عمومًا للشباب، واندرجت تحت إطار شراكة مع جمعية "الشارع فن" في فضاء دار باش حامبة، الواقع في المدينة العتيقة لتونس العاصمة. وقد حددت خاصيات هذا الفضاء معالمَ العلاقة بيننا وبين الأطفال الذين تراوحت أعمارهم في السنة الأولى للنشاط ما بين السابعة والحادية عشر. اتسعت التجربة انطلاقًا من السنة الثانية لتشمل فضاءات في مدارس ابتدائية واقعة في أحياء شعبية قرب المدينة العتيقة، تمت تهيئتها من طرف جمعية "الشارع فن" لتنظيم أنشطة فنية وثقافية لفائدة التلاميذ. تواصلت الأنشطة منذ سنة 2017 إلى اليوم في هذه الأماكن وتابعتها، في دار باش حامبة، مجموعة صغيرة رافقنا انتقالها من الطفولة الى سن المراهقة. وقد ساهمت خاصيات فضاء دار باش حامبة والعلاقة التي تربط اليافعين واليافعات بهذا المكان في ضمان انتظام المشاركة وتجذر النشاط في بيئة المدينة العتيقة.

خاصّيات الفضاءات وبناء الرابط الإجتماعي

يتميز فضاء دار باش حامبة بكونه مفتوحًا على المدينة العتيقة والأحياء الشعبية المتاخمة لها. وقد طوّر المشرفون والمشرفات على الجمعية علاقة بالسكان من خلال الأنشطة الفنية والثقافية الموجهة للأطفال. مع مرور السنوات، أصبح هذا الفضاء بمثابة بيت ثانٍ للأطفال الذين يرتادونه بانتظام. كان لهذا الشعور بالراحة في المكان عدّة تداعيات، منها إحداث الشغب في البداية والسعي الى خلق علاقة عدائية مع الكبار. يمكن فهم "الفوضى" الناتجة عن ذلك كتعبير عن الذات في ظل غياب العلاقات التقليدية التي تكون في بعض الأحيان سلطوية لا مجال فيها للإصغاء والحوار، إذ يؤدي سعينا إلى إنشاء علاقة مغايرة مع الأطفال إلى إحداث نوع من الارتباك. يقع التعبير عن هذا الشعور من خلال عدم القبول بالحدود السلوكية التي نسعى الى تفسيرها للأطفال والتي لا يستقيم العمل بدونها. لذلك يتمثّل عملنا في الحصص الأولى في إنشاء قواعد خاصة بمشاهدة الفيلم وبالحوار. ما نقاومه تدريجيًّا هو نزعة الأطفال إلى أخذ الكلمة والتعبير بطريقة فوضوية لا مكان فيها للإصغاء للآخر. هي نزعة تعمّقها المدرسة عبر فرض الذات بطريقة تنافسية لا مجال فيها للبحث الجماعي عن المعنى وللتساؤل عنه. ولكن بمرور الوقت يختفي هذا السلوك عند الأطفال وتتغير أيضا علاقتهم بالكبار المشرفين على النشاط وبالفضاء. يتجلى التغيير خاصة لدى الذين يشاركون في الأنشطة على مدى سنوات من الطفولة الى سن المراهقة، إذ يشعر هؤلاء بانتماء قوي الى الفضاء ويقع التعويل عليهم وعليهن من قبل فريق عمل "الشارع فن" في استقبال الأطفال الأصغر سنا. يصبح الفضاء إذا مكانا تنشأ فيه المجموعة على أسس مختلفة عن الروابط الأسرية والتربوية التقليدية، من شأنها أن تحفز روح المسؤولية وأن تخلق علاقات تلعب فيها الأنشطة الثقافية والفنية دورًا هامًا في بناء الرابط الاجتماعي. تتضافر إذًا خاصيات الفضاء والأنشطة التي يحتضنها لخلق انتماء مغاير لما هو سائد. ويؤدي ذلك أيضًا الى تصور الأطفال واليافعين واليافعات كذوات تؤخذ رؤاها على محمل الجد وتتفاعل مع رؤانا ككبار مشرفين ومشرفات على النشاط السينمائي.  

أما الفضاءات التي تم إنشاؤها في المدارس وعلى الرغم من صعوبة تطويعها لخلق علاقة وطيدة بينها وبين جمهور الأطفال الذين يرتادونها بمناسبة العروض، فقد بدأت تتحوّل تدريجيًا الى فضاءات للتعبير انطلاقًا من الأفلام وحسب قواعد مختلفة عما هو معهود في المدارس. تمثل الحصص الأولى في بداية كل سنة محاولة لرصد ما تعود عليه الأطفال في علاقتهم بالصورة وبأخذ الكلمة. ما نلاحظه هو صعوبة التركيز خلال العرض والتعليق بصوت عال أثناء المشاهدة. يعود ذلك الى عدم تعوّدهم على المشاهدة الصّامتة والى النزعة الاستهلاكية للصور التي لم تعد تحمل سردًا، والمرور من صورة الى أخرى حسب منطق تداول الصور على شبكات التواصل الاجتماعية. نستغل الحصص الأولى لإرساء طقوس العرض وقواعد التعبير. إذ تطغى الفوضى على النقاش في الحصص الأولى لأن الأطفال لا يعبرون عن آرائهم إثر العرض، بل يسعون الى افتكاك الكلمة بممارسة ضغط شديد على مسيري النقاش. يبدو لنا أن المدرسة تخلق تنافسًا بين التلاميذ على حساب الإصغاء وتبادل الأفكار وهذا ما نسعى الى تصويبه أيضا في الشهرين الأولين من كل سنة. يصبح فضاء النشاط تدريجيًا مختلفًا عن فضاء الدرس. كما يعي الأطفال شيئًا فشيئًا أن مهمتنا كمشرفين ومشرفات على النشاط لا تكمن في تقييمهم. يتعلم الأطفال بمرور الوقت الاستماع إلى بعضهم البعض ونحاول قدر الإمكان ألا نكون مصدرًا للمعرفة. فعندما يطرح علينا المشاركون والمشاركات أسئلة، لا نسارع الى الإجابة عليها، بل نجعل الإجابة أمرًا جماعيًا يبدأ من محاولات الأطفال، لتصبح الإجابة الجماعية طريقة تشاركية لاستخراج معاني الفيلم. هكذا يتحول الفضاء ليصبح مكانًا تحترم فيه طقوس العرض وتنشأ فيه علاقة مغايرة بالصورة. تنبني فيه أيضًا صلة مختلفة بالكبار، خارجة عن نطاق التقييم والسلطة المعرفية، ليصبح مختبرًا للتبادل الهادئ حول معاني الفيلم.
هذه الفضاءات (دار باش حامبة والقاعات التي هيأتها جمعية "الشارع فن") ما كان لها أن تنشأ لولا حدوث ثورة 2011 في تونس، التي فتحت مجالات العمل الجمعياتي وجعلت التعامل مع المؤسسات التعليمية ممكننا رغم المحافظة التي ما زالت تتسم بها المدرسة والمناهج التعليمية. ورغم الردة التي عرفتها البلاد في السنوات الأخير، ما زلنا كجمعيات وكفاعلين وفاعلات في المجال الثقافي نعتمد في عملنا على المكاسب التي حققتها الثورة من أجل ربط الفنون والثقافة بالشأن العام.


العلاقة بالسينما والأفلام واختياراتنا في البرمجة


يفسّر انعدام التمثّلات المرتبطة بالسّينما سلوك الأطفال في الحصص الأولى. على سبيل المثال، يتواصل الحديث بينهم بعد انطلاق العرض، ولا يرون مانعًا في التعليق عما يشاهدونه بصوت عالٍ، مما يجعل التركيز صعبًا، خاصة إذا كان الفيلم طويلاً. يُظهر النقاش بعد العرض صعوبة إعادة صياغة الخط السردي من قبل الأطفال، مما يدل على تقبل متقطع للحكاية. لهذه الأسباب، نلجأ في الحصص الأولى إلى برمجة أفلام قصيرة، ولا ننتقل الى الأشرطة الطويلة إلا عندما نلاحظ تغيّرًا في علاقة الأطفال بالصورة وتحسنًا في قدرتهم على التركيز.

ربما يجدر تنسيب مسألة انعدام التمثلات المتعلقة بالسينما. فعندما عرضنا "أربع مائة ضربة" لـ فرانسوا تروفو في إحدى المدارس الابتدائية في السنة الماضية، دار نقاش بين الأطفال حول وضع الأسرة: "هل هي أسرة غنية أو فقيرة؟" ولتعليل رأيه، قال أحد الأطفال: "إنها أسرة غنية لأنهم يذهبون إلى السينما." في هذه الملاحظة إسقاط يعكس السلوك الاجتماعي والتصورات المتعلقة بالسينما والفنون بشكل عام في تونس، في حين أن الفيلم يتحدث عن حقبة زمنية مختلفة كانت فيها السينما فنًّا شعبيًا في فرنسا.

رغم هذه الصعوبات التي أشرنا إليها سابقًا، ابتعدنا في البرمجة عن كل أشكال الإنتاجٍ النمطي. سعينا إلى تقديم برمجة متنوعة تشمل أفلامًا حديثة من خلفيات ثقافية وأجناس سينمائية مختلفة، وأخرى تنتمي إلى تيارات مهمة في تاريخ السينما، مثل الكوميديا الصامتة (أو ما يعرف بالـ "بورلاسك")، والواقعية الجديدة، والموجة الجديدة. يكمن الهدف من هذه البرمجة في تعويد الأطفال على تقبل جماليات متنوعة، وجعل البرمجة نافذة مفتوحة على ثقافات العالم. وقد مكنتنا بعض الأفلام من مناقشة سياقات تاريخية وجغرافية متعدّدة.
تجنبنا في برمجة الأفلام التحريكية التي يستسيغها الأطفال وفق الأنماط الإنتاجية المهيمنة (مثل أفلام ديزني)، واخترنا بدلاً من ذلك أعمالاً أقلية ذات بعد نقدي، مثل أفلام بول قريمو وجان فرنسان لاقيوني وفلورانس مياي. أثبتت التجربة انفتاح خيال الأطفال على جماليات متنوعة، رغم بعض التعليقات التي تعيد أحيانًا إنتاج تصورات نمطية عن الصورة وثقافة الآخر. ومع ذلك، تصبح هذه الملاحظات السلبية أحيانًا موضوع نقاش بين الأطفال وميسّري وميسّرات الحصص.

نسعى من خلال الحديث عن مواطن الاستغراب أو التعجب أو رفض الأطفال لبعض الخصائص الثقافية المختلفة إلى استخراج المشترك بين التجارب الإنسانية، رغم اختلاف السياقات. وتجدر الإشارة عمومًا إلى نزعة الأطفال إلى التفكير في بعض التمثلات والقضايا انطلاقا من واقعهم، مما يضفي على عملية التفكير في الفيلم بعدًا سياسيًا وينشئ جسرًا عبر هذا الإسقاط بين المحلية وسياقات أخرى.

عندما تبوح قراءات الأطفال للأفلام بنظرتهم للواقع

سأنطلق من بعض الملاحظات التي بقيت عالقة في ذهني لطرافتها أحيانًا ولطابعها المربك أحيانًا أخرى منذ بداية تجربتنا مع الأطفال.

أتت بعض الملاحظات على شكل إسقاطٍ لفكرة نابعة من قراءة طريفة ونقدية للواقع انطلاقًا من سردية الفيلم وذلك رغم اختلاف الرواية والسياق. خلال نقاش فيلم "السيرك" لـ شارلي شابلن، قالت احدى المشاركات التي لم يكن يتجاوز عمرها العشر سنوات: "الجمهور في الفيلم أهم من مدير السيرك لأنه أجبر هذا الأخير على قبول "شارلو" كمهرج، في حين أراد المدير تشغيله كعامل نظافة." وأضافت: "نحن، إذن، أهم من الباجي قايد السبسي" (رئيس الجمهورية حينها، النقاش يعود الى سنة 2018).
اعتمدت هذه القراءة على إسقاط طريف، وعلى ربط قراءة تمثيل السلطة في الفيلم -- وهي مسألة جوهرية في أعمال شارلي شابلن -- بواقع مغاير. ارتكز الإسقاط على تشبيه يعبر على نفس تحرري وعلى إحساس بقيمة الإرادة الشعبية، وعلى قرب الثورة التونسية من مخيّلة الطفلة، مما أضفى على قراءتها للفيلم بعدًا سياسيًا محليًا. في ذلك إقرار باتساع مجال التمثيل الخاص بفيلم شابلين إلى سياقات أخرى يغذيها خيال المشاهد أو المشاهدة.

وتجدر الإشارة أيضًا الى أن هذا النوع من القراءات كان أكثر تواترًا في السنوات الأولى من نشاطنا، حين كان بعض الأطفال متأثرين الى حدّ ما بالنقاش العام وبمختلف تعبيرات الانعتاق المجتمعي.

ما جلب انتباهنا أيضًا خلال نقاش فيلم "اللوحة" لـ جان فرانسوان لاقيوني، وهو فيلم تحريكي عرضناه لأول مرة سنة 2020، هو فهم الأطفال لرمزية تصنيف الشخصيات إلى ثلاث طبقات: المكتملون، واللا مكتملون، واللذين اكتفى الرسام برسمهم بشكل بدائي. وقام الأطفال بتشبيه هذا التصنيف بتركيبة المجتمع وطبقاته.

نظرًا لأهمية مسألة التقاطع بين التمثيل الفني والتمثيل المجتمعي والسياسي، ارتأينا التعليق عليها انطلاقا من مشاهد معيّنة، منها المشهد الذي يحدث في ورشة الفنان، حين قرّر اللا مكتملون البحث عن الرسّام ليكمل رسمهم، ولتنتفي أسباب اضطهاد المكتملين لهم. يكتشف اللّا مكتملون لوحات عديدة في الورشة، ويتجولون من لوحة الى أخرى، فتتغير المشاهد بدخولهم إلى تلك اللوحات وبخروج الشخصيات منها ودخولها إلى لوحات أخرى.

لاحظت إحدى المشاركات أثناء التعليق عن هذا المشهد أن الشخصيات الوحيدة التي لا تتنقل من لوحة إلى أخرى هي شخصيات الجنود، وفسرت ذلك بأن الجنود لا يمكنهم اجتياز الإطار لأنهم منضبطون. تفاجأنا بدقة الملاحظة ووجاهتها، لا سيما أن هذه القراءة تثري معنى كلمة "الإطار" وتخلق تطابقًا بين البعد الفني (إطار اللوحة) للكلمة والبعد السياسي.


في كل هذه الحالات، كانت القراءة السياسية للأفلام نابعة من فهم الأطفال واليافعين ومن قراءتهم للواقع، ويمكن اعتبارها إحدى تعبيرات النقاش العام في البلاد. على سبيل المثال، في فيلم آخر تحركي لـ جان فرانسوا لاقيوني بعنوان "رحلة الأمير"، يصور المخرج جلسة لأكاديمية العلوم بفرنسا. كان النقاش في هذه الجلسة على أشدّ حالات التوتر، مما دفع اليافعين واليافعات إلى تشبيهها بالمجلس التأسيسي الذي أفرزته انتخابات 2011. استخدم المشاركون والمشاركات هذا التشبيه رغم أننا عرضنا الفيلم سنة 2020، أي بعد انتهاء مدة المجلس التأسيسي، حيث تغير اسم البرلمان بعد 2014. ومع ذلك، استمر اليافعون في استخدام عبارة "المجلس التأسيسي" لارتباط هذه المؤسسة في مخيلتهم بالنقاشات الحادة، ولأن جلسات هذا المجلس كانت تبث في التلفزيون طيلة السنوات الثلاث التي تطلبها إعداد دستور 2014.

في أحيان أخرى، يتمثل الإسقاط في فهم الأطفال لسياق معيّن لا يعرفونه على ضوء سياق آخر حاضر في مخيلتهم أو وفيما يقال حولهم عن بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية. فعندما عرضنا فيلم "ماري بوبينز" لـ روبرت ستيفنسون في إحدى المدارس الابتدائية، فهم الأطفال أن شخصية الأم مناضلة نسوية، لكنهم استعملوا عبارة أخرى لوصف التزامها، فقال أحدهم: "هي تناضل ضد العنف الذي تعاني منه المرأة.". يمكن تفسير هذه القراءة المغايرة لالتزام الأم في الفيلم بحادث قتل امرأة على يد زوجها الشرطي في الأسبوع الذي نظمنا فيه العرض وبالنقاش العام حينها آنذاك حول ضرورة تفعيل قانون مناهضة العنف المسلط على النساء. هذه الأمثلة وغيرها تمكن من رصد أصداء النقاش العام في مخيّلة الأطفال.

في السنة الماضية، وبعد أشهر قليلة من بداية العدوان على غزة، عرضنا فيلم "العبور" لمخرجة الأفلام التحريكية فلورانس ميياي. يروي الفيلم قصة أخويين ينتميان الى أقلية عرقية أو دينية لم يتم ذكرها في الفيلم، تعرضت الى للقمع من قبل ميليشيات لم غير محددة الهوية، وهُجرت قسرًيا من وطنها. أثناء العرض، سمعنا الأطفال يتساءلون عن هوية المجموعة التي تعرضت للقمع، وقال البعض: "البلاد هاذيكا  فلسطين؟" . دار النقاش جزئيا حول هوية الضحايا وحول مفهوم الأقليات. لم يكن هذا الإسقاط مفاجئًا، خاصة وأن تصوير العدوان في الفيلم يحيل إلى سيناريو الإبادة، وأن عدم تحديد الهوية يجعل الفيلم قابلاً للتطبيق على العديد من السياقات. ما كان مفاجئًا هو سؤال آخر طرحه الأطفال: "الجيش المعتدي، هل هو جيش تلك البلاد أو جيش أجنبي؟". وجاهة السؤال، التي ترتكز على عدم تحديد السياق في الفيلم، تنم على وعي الأطفال بإمكانية تسليط القمع من قبل الدولة على مواطنيها.



لئن كانت هذه القراءات والاسقاطات السياسية النابعة من وعي الأطفال واليافعين بمحيطهم تعبر عن حسّ نقدي وعن خيال تحرري، فإن مخيلتهم لا تخلو أحيانًا من استبطان للقمع المجتمعي، الذي ينجرّ عنه اسقاطات تحول دون التعاطف مع شخصيات الفيلم، حتى وإن كانوا أطفالاً. في أغلب الأحيان، عندما يتجاوز سلوك شخصية الطفل في الفيلم بعض الحدود ويسلط عليه بعد ذلك العقاب، يكون موقف جمهور الأطفال متناغمًا مع قرار السلطة التي تعاقب. ولا يقع تنسيب هذا الموقف المفاجئ بالنسبة إلينا إلا بعد نقاش طويل. لمراجعة الموقف، نلجأ عادة الى ملاحظة التضارب بين المتعة التي يشعر بها الأطفال كمشاهدين عند مجازفة الشخصية باجتياز بعض الحدود، وبين موقفهم الذي يُشرّع لعقاب غير متناسب مع ما قام به الطفل. هكذا كان التّفاعل إزاء العقاب في "أربع مائة ضربة" لـ فرانسوا تروفو وفي "مسافر" لـ عباس كيارستامي.

وقد دهشنا أخيرًا من تأييد إحدى الطفلات لصفعة وجهها الأب الى ابنه في فيلم "سارق الدرّاجة" لـ فيتوريو دو سيكا، رغم أن سلوك الطفل في الفيلم كان خاليًا من تجاوز الممنوعات. عندما عبرنا عن استغرابنا من هذه القراءة، برّرت الطفلة العقاب بكثرة الأسئلة التي يطرحها الطفل على أبيه، بينما برّر طفل آخر الصّفعة بتعب الأب وغضبه. يمكن تفسير ذلك بتعاطف الأطفال مع شخصية الأب، كما يمكن تفسير نزعتهم إلى تبرير العقاب بتمثلاتهم للكبار واعتقادهم أننا، ككبار، سنقف مع السّلطة التي تعاقب. وكأنهم يتجنبون أيضًا اتهام الكبار بالظلم، لأن في الإقرار بذلك بوح بصراع دفين مع التّصورات الداخلية للسلطة.

استبطان النظرة المجتمعية والأفكار المسبقة ظهر بوضوح عند عرض أفلام من إفريقيا جنوب الصحراء. غالبًا ما يكون تلقي الأطفال لهذه الأفلام مشوبًا بملاحظات تعبّر عن عدم تماهيهم مع العوالم المصوّرة فيها. فعند مشاهدة لقطات لأطباق الأكل أو مشاهد الرقص، يبدو الأطفال في حالة استغراب، بل وأحيانًا اشمئزاز، حيث يلفظون أحيانا بملاحظات عنصرية.





ما لاحظناه أيضًا هو عدم الرّبط بين واقع بلدنا وواقع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء. إذ قال البعض بعد عرض فيلم "بائعة الشمس الصغيرة" لـ دجيبريل ديوب مامبتي: "تلك البلاد فقيرة جدًا وهي أكثر فقرًا من تونس،" وعندما سألناهم عن أسباب انطباعهم هذا، أجابوا: "يوجد العديد من الباعة المتجولين." في حين أنّ المدرسة التي تم فيها العرض تقع قرب ساحة فيها الكثير من الباعة المتجولين. عدم الربط بين الخاصيات المجتمعية الموجودة في الواقع التونسي وتلك المصورة في الفيلم عادة ما يعبر عن رفض لعملية التّماهي.

في إحدى المرات، أثناء عرض فيلم دجيبريل ديوب مامبتي، لم يتوقف سيل الملاحظات العنصرية إلا عندما سمع الأطفال صوت الآذان في أحد مشاهد الفيلم،  فتعجبوا قائلين: "هل هم مسلمون؟" نسعى خلال النقاش إلى تفكيك التمثّلات العنصرية وتقريب الواقع المصوّر من واقع الأطفال، حتى يتمكنوا من رؤية المشترك الإنساني بين الثقافات. عادة ما يكفّ الأطفال عن التلفظ بالملاحظات العنصرية عندما نعرض أكثر من فيلم من إفريقيا جنوب الصحراء. كما أن تلك الملاحظات تكون نادرة في المجموعات التي تضم أطفالاً من ذوي البشرة السوداء، سواء كانوا تونسيين أو أجانب.


بعد انتهاء العرض، نلجأ أيضًا إلى عرض خريطة القارة الأفريقية لمساعدة الأطفال على فهم موقع البلد على المصور في الفيلم والمسافة الفاصلة بينه وبين تونس. في إحدى الحصص، اقترب أحد الأطفال من الشاشة وبدأ يتتبع بإصبعه خطوط الحدود الفاصلة بين تونس والسنغال، وكأنه يخط طريقًا للوصول إلى السنغال. كانت هذه الحركة الطريفة، التي تعكس خلطًا بين مفهوم الحدود والطريق، معبرة لأنها تجاهلت، بشكل غير واع، واقع الحدود التي أصبحت عائقًا أمام التواصل، بينما أكدت على الشاعرية التي نهدف إلى بنائها بين التمثّلات السينمائية المتنوعة وواقع الأطفال.
إنصاف ماشطة


انصاف ماشطة أستاذة في الأدب الفرنسي والسينما في جامعة تونس ورئيسة جمعية مسارب منذ سنة 2017.

كانت عضوة في فريق تحرير مجلة سينيكري، حيث نشرت أولى مقالتها النقدية بين عامي 1994 الى 2004، ثم واصلت نشر في مواقع نشاز ونواة وأرخبيل الصور.

تعمل في إطار جمعية مسارب على صياغة وتطوير مشاريع تتعلق بنشر الثقافة السينمائية وتنظيم فعاليات وورشات في قراءة

الصورة وصناعتها، موجهة الى ثلاث فئات عمرية: الأطفال، المراهقين والشباب.
Copyright ©