١   ٢   ٣   ٤   ٥   ٦   ٧
بحثًا عن "المنعطف" ١

ريمان ساداني وعلى شمَيِّلْ

17/03/2053



فيلم "المنعطف"، جعفر علي (1975)

 

قبل عام من الآن، وتحديدًا في بداية عام 2052، ذهبنا لزيارة مكتبة مهدي عباس السينمائية  في بيت عائلته. قبل عشرة أعوام، تم تحويل غرفة الإستقبال المطلة على حديقة البيت إلى مكتبة عامة تحوي مجلدات ومجلات سينمائية وملصقات للأفلام وبعض الشرائط والصور، جمعها مهدي عباس خلال سنين عمله منذ السبعينيات كصحفي ومؤرخ للسينما العراقية. قصدنا المكتبة بحثًا عن أي خيط يوصلنا إلى فيلم "المنعطف" لجعفر علي (1975)، الذي عثر عليه قبل سنوات قليلة متحلّلًا داخل أسطوانة معدنية في مخزن بيت بغدادي يحوي مجموعة خاصة من أفلام سينمائية عراقية. ١

ما نجا من الفيلم لغاية اليوم؛ نسخة رقمية تعود إلى عام 2015، رديئة الجودة، ولا تختتم بشارة "نهاية" تحسم أحداث القصة.1 مع مرور الوقت، تم إعادة تداول هذه النسخة ونشرها عدة مرات، ليكتسب الفيلم وجودًا موازيًا في الفضاء الرقمي بينما نسخته الأصلية غائبة لعقود طويلة. بتحلل الشريط الفضي، يحجب الفيلم نهايته الحقيقية، ويترك الأحداث معلّقة عند لقطة لجمع من الناس يشهدون مصير جثة ملقاة في الشارع. ا




مذكرات "س.م." (2023)







في المكتبة، وبينما كنا نقلب عناوين بعض الكتب والمجلات، ننقب عن أي وصف يقترح نهاية بديلة للفيلم، ظهر أمامنا دفتر أحمر اللون، تدرجه المكتبة تحت صنف "تاريخ شخصي". يحتوي الدفتر مذكرات تعود لأكثر من ربع قرن، تدور في فلك العروض السينمائية، وتتبع آثار ذات الفيلم الذي نبحث عنه. لا يحمل الدفتر اسمًا يُشير إلى صاحبه، عدا عن الحروف "س.م." على الغلاف. ولا نعلم إذ كان قد تم التبرّع به للمكتبة، أم وجد عن طريق الصدفة. هكذا، تغيّرت بوصلة بحثنا، ووجدنا أنفسنا نتتبع خطوات شخص مجهول يبحث عن مساحة لعرض فيلم "المنعطف" في عام 2023، بينما المدينة - بغداد - تتغيّر وتتبدل ملامحها. ١
١




20-03-2023

المشي في بغداد أصبح مزعجًا. كل الأرصفة ضيقة، وبلا أشجار. ١

أقف لتوثيق المشهد: جذوع أشجار مقطوعة، لم تقتلع من جذورها بعد. ألتقطُ صورًا من زوايا مختلفة، فيسألني رجلين: "شنو مشكلتك ويّا التطور؟" ١

أخرج من النقاش بسلامة، وأواصل السير الى وجهتي. أتلمس الموبايل داخل جيب بنطالي، وأشعر بإنجاز كبير لمجرد أني وثقت آخر شي يربطني بالشارع الذي أحبه.
١

في الصفحات الأولى من المذكرات، يضعنا "س.م." أمام مشاهد لمدينة تتغير ملامحها، مراقبًا ذلك التحوّل بشيء من القلق والشعور بالاغتراب. حيث يطلق على بغداد في إحدى الصفحات وصف "مدينة خرسانية تكبر على الأنقاض". تزامن هذا التحوّل الذي وثقه "س.م." مع حركة عمران تسارعت في العراق عموماً منذ عام 2017 نتيجة شراكات دولية، واستثمارات حكومية وأخرى خاصة، مدفوعة بتوجه نيوليبرالي وحاجة لاستعادة الحياة ما بعد الحروب المتتالية.2 تعقيدات حركة العمران تلك تكمن في عملية استبعادها للماضي، حيث هدمت مبانٍ وأحياء تراثية عدة، وقطعت الأشجار المُعمّرة لتوسعة الطرق ومد الجسور، مما شكل تهديدًا ماديًا ومعنويًا لهوية المكان.3 هذا التهديد، ليس بجديد في تاريخ العراق المعاصر، المليء بالانقلابات والحروب وغياب الاستقرار السياسي والإجتماعي؛ ولا يقتصر فقط على تغيير اسم شارع أو هدم بناية معينة، إنما يطال ذاكرة الفرد وعلاقته مع المكان؛ مثلما نقرأه في مذكرات "س.م.".4 ١

في خضم التحوّل السريع الذي عاشته بغداد في عام 2023، يبحث "س.م." عن فيلم أنتج في سبعينيات القرن الماضي، أبطاله شخصيات قلقة، تعيش اضطرابًا حول ما ينتظرها في المستقبل الغامض. ١
١
فيلم "المنعطف"، جعفر علي (1975)






10-02-2023

مرّ يومان، وفكرة عرض الفيلم لا زالت تؤرقني. صديقي صلاح أكد لي أن الفيلم موجود، بس لازم أشتريه. هذا حمل ثقيل! ١

لماذا أشتري فيلمًا عراقيًا قديمًا؟ ربما من الأفضل أن أذهب إلى الشبكة.5  لكن صديقي أخبرني بأنني لا يمكنني الدخول إلا بتزكية من شخص يعمل هناك، يعرفني وأعرفه. يضع اسمي عند الاستقبال وأدخل بعد تسليم هاتفي. ألتقي بمسؤول الأرشيف، ثم أرفع طلب مشاهدة أولية للفيلم وأقدمه لرئيس الشبكة. ١
أكد صلاح، بإلحاح كبير، أنه من الضروري أن أشرح دوافع طلبي بالتفصيل. بعدها أنتظر القبول أو الرفض. يقول بأن الأمر يستغرق شهرين أو أكثر، بس مايضمن أكو نسخة من الأساس! تعب ع الخالي بلاش.
١

أغلب المصادر التي وجدناها في مكتبة مهدي عباس والمدونات الإلكترونية تشير إلى أن فيلم "المنعطف" أنتج من قبل الشركة الوطنية للأفلام وعرض لأول مرة في بغداد عام 1975، ثم في الدورة التاسعة لمهرجان موسكو السينمائي الدولي. غاب الفيلم بعدها عن دور العرض إبان الحصار الاقتصادي على العراق عام 1991، وانقطعت سبل الوصول إليه بعد عام 2003 مع اختفاء وتبعثر محتوى الأرشيفات الرسمية إثر انهيار نظام الحكم.6 ١

يقتبس الفيلم أحداثه من رواية "خمسة أصوات" (1967) لغائب طعمة فرمان، تتناول صراعات داخلية لمثقفين بغداديين من تيارات فكرية وسياسية مختلفة، يشهدون بوادر ثورة ضد الملكية والاستعمار. تجسد هذه الصراعات ثلاث شخصيات رئيسية في الفيلم: الصحفي سعيد المهتم بالقضايا الانسانية، والشاعر شريف الملقب ب"بودلير افندي"، وسمير بيك ابن وزير سابق. ١

على غرار زمن الرواية، يبدأ الفيلم بلقطات أرشيفية لبيان متلفز يلقيه الرئيس أحمد حسن البكر معلنًا تأميم النفط العراقي عام 1972، تليها لقطات متفرقة لجماهير تغزو الشوارع، يراقبها الصحفي سعيد من إحدى المباني المرتفعة.7 في جو الاحتفال الصاخب، يشرع سعيد للكتابة ويخط على صفحة بيضاء عنوان كبير: "التأميم عبر النضالات والتضحيات". ما أن يبدأ باستذكار ذلك التاريخ، يستند سعيد للوراء، وتفقد الكاميرا تركيزها تدريجيًا، ثم ينتقل السرد إلى الخمسينيات ليستعرض شخصيات غارقة بأسئلة وجودية وتشعر باغتراب مزدوج.8 ١





فيلم "المنعطف"، جعفر علي (1975)




22-02-2023

قبل منتصف الليل، يجلس الأصدقاء الثلاثة على حافة نهر دجلة مع سكرتهم. يرفع شريف قنينة الخمر ويبوح: "الإنسان مسجون. النهر حر، وين ما يريد يسافر.. لا شرطي يوگف بوجهه، لا حدود، لا مكاتب تفتيش" ثم يضحك. يلمح شريف قارب يمر ببطء من أمامه فوق النهر، فيقف وينادي عليه: "هااي وين..؟" ١

يختفي القارب، ويعود شريف لبوحه: "تمهلوا.. فإنني الزمان، أريد أن أمر في سكون، عبر بلاد الخوف والشجون، فها هنا لا تُفتح العيون، فكل شيء في ربى السلام؛ ينوح في الظلام". ١

يركب شريف مع أصدقائه على عربة يجرها حصان تحملهم إلى منازلهم. لكن لا نشاهد معهم ما يشاهدونه في ليل بغداد الدامس. لما لم يصور جعفر علي التجوال الليلي؟ لما لا تسترد الشخصيات مدينتهم ولو لبضع ساعات، قبل عودة الضوء؟

في صفحة أخرى من المذكرات، يتوقف "س.م." طويلًا أمام بعض مشاهد الفيلم، يصفها بتفصيل لافت، جعلنا نتساءل عن سبب حضور تلك اللحظات دون سواها. ما الذي يربطه على سبيل المثال، ببَوح "شريف" عند ضفة النهر؟ هل وجد في كلمات "شريف" ما يعبر عن صراعه مع المدينة؟  أم أنه كان يبحث، من خلال هذا المشهد، عن مكان مشترك يربطه مع ما مضى، ولتكن ضفة نهر صمدت ولو مؤقتًا أمام التحولات المادية الكبيرة التي عصفت ببغداد؟ لعل النهر هنا، بذاكرته المتراكمة، هو الماضي الحي الذي يستطيع "س.م." معه أن يستعيد شعورًا بالألفة، ربما غادره مع المدينة.9 وهنا نتساءل أيضًا، هل يمكن  لشعور الاغتراب أن يكرر نفسه في ذات المكان باختلاف الشخص والزمن؟ خاصة حين نكون أمام شخصيات مترددة، تائهة، تنتهي ليلتها حيث بدأت: في دوامة من الأسى.  فعندما ينزل "شريف" من عربة الحصان ويودّع أصدقاءه، يتكئ على جدار ويبدأ برثاء نفسه وتعداد خساراته: "لا بحر، لا گاع، لا مدينة"، بينما يصدح في الخلفية صوت مغنٍ مجهول: "ظلام الليل خيّم عالقلب وأسدل" . ١

في جزء لاحق من المذكرات، يتساءل "س.م." عمّا لو أن صانع الفيلم، جعفر علي، قد أضاع فرصة أن يُرافق شخصياته في جولة ليلية في شوارع بغداد،  ليلتقط ملامحها ويُسجل تفاصيلها الحيّة. هذا التساؤل لا يبدو محض ملاحظة نقدية، بل ينطوي على محاولة للتدخل، بإعادة توجيه الكاميرا، ومنح الشخصيات فرصة للتفاوض مع مدينتها، لا فقط مراقبتها. فخلافًا لشخصيات الفيلم، التي تظل طوال السرد حبيسة المقهى ومقر الجريدة والبار، يبدو أن "س.م." ينحاز إلى فعل يُعيد المدينة إلى الصورة، ويُعيدنا إليها. رغم أن محاولته هذه على النقيض من طبيعة شخصيات الفيلم،إذ إنها، طوال السرد، شخصيات غير فاعلة، تراقب المدينة والمجتمع الذي تكتب عنه، عبر نافذة مقر الجريدة. وفي الليل، تجد نفسها على ضفة النهر تشكو مأساتها اليومية.10 ١





قائمة يكتبها "س.م." لأماكن محتملة لعرض الفيلم (2023)


وجدنا أنفسنا في واحدة من صفحات المذكرات، نتخيل "س.م." منهمكًا في مكالمات مع أشخاص مختلفين وأمامه قائمة بأماكن محتملة لعرض "المنعطف". في كل مكالمة يضطر أن يُعرّف عن نفسه ويشرح دوافعه لعرض الفيلم. ما أن ينفذ صبره، يجر خطوطًا فوق قائمته، معقبًا بتعليق قصير هنا وهناك.. وهكذا، يستبعد جميع الأماكن المدرجة تاركًا احتمال واحد: "صالون البيت". يأتي ذلك ضمن بحثه عن مكان مستقل، وسط عدد من الأماكن المهيمنة على المشهد الثقافي، منها ماهو تابع إلى مؤسسات حكومية وأخرى خاصة - محلية وأجنبية - تتمركز في بغداد حيث ينشط رأس المال. ١

في الجزء التالي نستعرض ثلاث أماكن من المذكرات يزورها "س.م." لمشاهدة الأفلام. حيث نتعرف في المكان الأول على نموذج لمؤسسة رسمية تحتضن عروضًا سينمائية، بينما نقترب في المكان الثاني والثالث من مساحات جديدة على هيئة نوادٍ سينمائية ناشئة، تستقل في عملها عن المؤسسات الرسمية. ١

مكان رقم 1: ا

الكثير من سيارات الدفع الرباعي يقفن أمام باب المؤسسة الحاضنة لعرض أفلام هذا المساء. شخصيات أجنبية، معهم حماياتهم الشخصية من رجال يحملون أسلحة حديثة فوق خواصرهم. سياراتهم المصفحة لا تنطفئ، تبعث دخان كريه. ١

خلف واجهة المبنى الزجاجية، يقف ناس ببدلات رسمية، وموظفي استعلامات يراقبون خطواتي. ما ان اقتربت من صالة العرض، حتى كبس أحدهم على عداد يدوي وأصبحت رقمًا يثبت نجاح العرض وإقبال "الجماهير المحلية" عليه. ١

دخلت القاعة، وتعمدت إطالة المشي بين الممرات الضيقة بحثًا عن مقعد فارغ في زاوية مظلمة، بينما ينتهي رعاة الحفل من قراءة كلماتهم الافتتاحية، وتكمل المترجمة ترجمة ما يقال. ١

صفّق الحضور، وانطفأت الأضواء. بعد مرور الدقائق الخمس الأولى من العرض، شغلتني حاجة ملحة لكوب شاي. لكن سرعان ما تراجعت عن الفكرة، فالشاي هنا بسعر ثلاث علب سجائر.11١




مكان رقم 2: ا

مضت ثلاث أيام منذ وصولي الى البصرة. بدأت أحب التواجد في مدينة لا أعرفها ولا تعرفني. ذهبت البارحة الى عرض في نادي السينما كان قد دلني عليه أحد الأصدقاء. ١

تمشيت حتى أشوف المدينة وشوارعها. هي الأخرى لم تسلم من الحداثة العشوائية. وصلت في النهاية الى مبنى تراثي، يعود بناءه لفترة بداية القرن العشرين. بداخله باحة واسعة مكشوفة، وفي محيطها عدد كبير من الغرف بأبواب خشبية مزينة بنقوش وزخارف. الجدران مبنية بطابوق جفقيم، لا زال يحتفظ بجودته.12 ١

يسكن المبنى شخص مع عائلته، لا تنقطع أحاديثهم داخل المطبخ أثناء العرض. ١

في نهاية السهرة، قررت البقاء لحضور جلسة النقاش. ساد صمت ثقيل في البداية، ثم خرج الصوت مبعثر، غريب، لملمناه سوية. تكلمنا طويلًا، لكن مع كل مرة يفتح فيها باب المدخل كنا نبلع أصواتنا حتى ينكشف وجه الآتي: أي أحد ممكن يطب عليك! ١



مكان رقم 3: ا

ممر صغير في الطابق الأول لعمّارة تجارية قديمة. على جانبيه عدد من المحال التجارية. في نهاية الممر، مساحة فنية اسمها فن خانة. مساحة لا تتجاوز ثلاثة أمتار مربعة. عند الباب، علب صغيرة بداخلها شامية [فُشار] بثلاث آلاف [دينار]. ١

في الداخل، أقل من عشرة كراسي بلاستيكية موزعة على المساحة كلها، وفي الزاوية وضعت أريكة قديمة. على الجدار شاشة بلازما متوسطة الحجم، مرتبطة بها سماعة صوت صغيرة جدًا. هكذا شاهدنا فيلم "غير صالح" لعدي رشيد.13 لم أختبر شعور مشاهدته مع آخرين قبل اليوم، فلم يعرض الفيلم سوى مرتين آخر أربع سنوات. مع ذلك، كان معظم الحاضرين قد شاهدوه للمرة العاشرة أو أكثر. ١

صاحبة مساحة العرض، بنت شابة تعزف جيتار اسمها سالي. سألتها عن كيفية تنظيم النادي، قالت مبتسمة: "من جيبي، ومن فلوس الشامية!" ١





رغم اختلاف تجارب مشاهدة الأفلام في الأماكن الثلاثة التي يصفها "س.م." في مذكراته، إلا أنه يلفت نظرنا في المكان الثاني والثالث إلى تجربة خاصة للتجمع في نواد سينمائية ناشئة يديرها هواة بموارد بسيطة. في نادي البصرة، يحاول "س.م." وآخرين خوض حوار، وفي فن خانة نجده يختبر مشاهدة فيلم يحبه، بصورة جماعية، لأول مرة. هذه النوادي، رغم قلتها آنذاك، مثّلت وعيًا جديدًا يحاول خلق مساحات مستقلة عن المؤسسات الحكومية وغيرها.14 تزامنت حركة الوعي هذه مع عودة تدريجية للجماهير إلى صالات العرض، إذ دخلت علاقة المجتمع مع السينما في طور التعافي بعد قطيعة تعود الى فترة الحصار الاقتصادي (1990 - 2003) اُسْتبعد حينها العراق من عمليات توزيع الأفلام العالمية، وأُغْلقت أغلب دور العرض السينمائية.15 16 ١

لكن، وفي فترة الحصار الاقتصادي ذاتها، برزت مساحات (نوادٍ سينمائية) ينظمها أفراد بصورة مستقلة. منها تجمعات كانت تقام في البيوت، تحتضن طلبة السينما وغيرهم من المهتمين، ويشرف عليها صانعي أفلام، وأحيانًا شعراء وأدباء ورسامين. إلا إن هذه المساحات لم تستمر طويلًا، وذلك لعدة أسباب، من أهمها السرية التي كانت مفروضة على تنظيم العروض بسبب السلطة القمعية آنذاك، كذلك صعوبة الحصول على الأفلام السينمائية إلا عن طريق المهربين والسوق السوداء.17 ١17

على الرغم من المسافة الزمنية الطويلة ما بين نوادي التسعينيات، والنوادي التي وثّقها "س.م."، إلا أننا نجدها مدفوعة بذات الحاجة لمشاهدة الأفلام وإقامة الحوار في أماكن مستقلة عن السلطة المهيمنة، بالتحديد في لحظات الصراع والتحوّل. ١


اقتباسات من مقابلة (غير منشورة) مع عدي رشيد أجراها علي شمَيِّلْ، 2050 
١ ١ ١
قائمة يكتبها "س.م."، تبدو لاحتياجات العرض (2023)


نشعر بعبث بحثنا عن نهاية فيلم متحلل. حتى بعد انشغالنا بمذكرات "س.م."، لم نصل إلى ختام رحلته. لا من إشارة في المذكرات أو مصادر أخرى تدل إلى أن عرض فيلم "المنعطف" قد تم فعلاً. لكن لو تخيلنا الحدث، فإنه غالبًا سيكون في البيت - تلك المساحة التي لطالما استودع العراقيون فيها ما أقصته وأهملته وحظرته المؤسسات والخطاب السائد. ١

إذ في الفترة الزمنية التي كُتبت فيها المذكرات، يبرز "البيت" كمساحة لعروض سينمائية أو لحفظ مقتنيات تتعلق بعرض الأفلام، مثل تجربة محمد أبو يوسف، السينمائي الذي حوّل أكثر من نصف منزله في بغداد إلى سينما بتقنيات عرض كلاسيكية، أو عبد القادر الأيوبي، المرشد التربوي الذي أنشأ صالة عرض ومتحفًا مكرّسًا لكل ما يتعلق بتاريخ السينما في قبو منزله في كركوك.18 19 ١

كأن البيت هنا هو البديل الأمثل، والمساحة الآمنة لإقامة نشاط فنّي جماعي دون أن يصطبغ بصبغة مؤسساتية ذات خطاب وأجندات، وهذا ما نظن أن "س.م." كان يبحث عنه. ١

ما تشير إليه المذكرات هو مشهد سينمائي عشوائي إلى حدٍّ ما، يحاول إيجاد مساحة آمنة لنفسه وسط الصراع السياسي والإجتماعي. في خضم هذا، يبرز أفراد يطالبون بمكان خاص - مستقل - في المدينة، مدفوعين بحاجة لمراجعة الماضي وفهم ما يتم توريثه. أحدهم يبحث عن مكان لعرض فيلم من السبعينيات، وآخرون في البصرة ينظمون عروض أفلام في مبنى تراثي مهدد بالاندثار، وغيرهم في بغداد يشاهدون فيلمًا يعرفونه عن غيب، لكن يختبرون مشاهدته معًا للمرة الأولى. ١

لا يسعنا في نهاية بحثنا إلا أن نتخيل أن المشهد الآتي قد حدث بالفعل: في موعد محدد، يجتمع المدعوون في غرفة للمعيشة، يتوزعون بين أريكة وفرشات على الأرض. يقف "س.م." قرب قابس الضوء، يبتسم، ثم يحل الظلام. شعاع الضوء الذي يسري في المكان يعلن بدء عرض فيلم "المنعطف" — بالنسخة الرقمية الرديئة ذاتها، الناجية إلى اليوم. ١




شكر خاص إلى: ١

زياد تركي، نور عويضة، عدي رشيد، محمد صباح، موفق الصفدي، شبكة ناس. ١





ريمان ساداني

ريمان ساداني، صانعة أفلام ومنتجة مختصة في الأرشيف تقيم في لندن. تشمل ممارساتها الفنية الكتابة، وإقامة العروض الفنية. حصلت على جائزة Jerwood/FVU السينمائية لعام 2020. عُرضت أفلامها في مهرجان لندن للأفلام القصيرة، ومهرجان Open City للأفلام الوثائقية، ومهرجان "سفر" السينمائي، كما عُرضت في مينيابوليس في مهرجان "ميزنا" للفيلم العربي، وفي نيويورك في سلسلة "Modern Mondays" بمتحف الفن الحديث. ١

علي شمَيِّلْ

علي شمَيِّلْ، كاتب وصانع أفلام مستقل مقيم في بغداد. نشاطه الفنّي السينمائي يشمل التحليل الأنثروبولوجي، كذلك الأثر الشعري في تشكيل الهوية السردية/ البصرية. حيث يتناول في أفلامه قضايا مثل الذاكرة والصراع بين الفرد والمجتمع. يعمل حاليًا على فيلمه الروائي الطويل الأول، مستندًا في قصته إلى الثقافة العراقية المحلية وامتدادها الإنساني، باحثًا في التفاصيل اليومية عن أزمات تعكس تحوّلات أوسع في التاريخ العراقي الحديث. ١



الهوامش
ا
  1.  هذه أقدم نسخة رقمية لفيلم "المنعطف"، نشرت على شكل ثلاث أجزاء، 10 أكتوبر 2015.

  2.  راجع: بلال سمير، بغداد: قصة هوية (بغداد، دار درج للنشر والتوزيع، 2020).

  3.   راجع مقال: عامر مؤيد، "أداة تعذيب تنتهك جسد المدينة: الكرادة تودّع داخلها إلى الأبد" جمار، 14 آذار 2023. وراجع مقال: إيهاب شغيدل، "'إنجازات' حكومة السوداني: التخدير بالإسفلت" جمار، 4 مايو 2023.

  4.  لفهم أوسع لتاريخ العراق المعاصر، راجع: سليم مطر، الذات الجريحة (بيروت، دار الكلمة الحرة، 2008/ طبع لأول مرة 1997).

  5.  ملاحظة: إمكانية شراء الفيلم تشير أنه متاح عن طريق أحد جامعي الأرشيف. أما "الشبكة" تشير الى شبكة الإعلام العراقي التي تأسست عام 2003 لتدير قنوات فضائية وإذاعية محلية، بالإضافة الى رعاية جزء كبير من الأرشيف السمعي والمرئي لإذاعة بغداد وتلفزيون العراق.

  6.  ملاحظة: عرض الفيلم في المهجر مرتين بعد عام 2003، في عام 2010 في دارة الفنون في عمان وفي عام 2011 في مقهى ثقافي في لندن. فيما يخص مصير النيجاتيف أو نسخ العرض لفيلم "المنعطف"، فلا تتوفر معلومات دقيقة حول أماكن وجودها، باستثناء نسخة يحتفظ بها جامع خاص في العراق، حسب مصادرنا.

  7.  وظفت حكومة أحمد حسن البكر قرار تأميم النفط، لتعزيز شرعيتها وتقديم نفسها كامتداد لثورة شعبية مناهضة للاستعمار منذ الخمسينيات. تختلف الروايات حول ما حدث عند إعادة كتابة رواية "خمسة أصوات" كنص سينمائي في السبعينيات، فهناك من يرى أن اضافة بيان تأميم النفط كان بطلب مباشر من الرقابة وآخرون يُلمحون إلى أن صناع الفيلم قاموا بذلك طواعية لتعزيز فرص إنتاجه.

  8.  يصف محمد غازي الأخرس صراع المثقف العراقي وكيف إنه نتاج شبكة معقدة من الانتماءات والانكسارات، يدور داخل منظومة متشابكة من التطلعات والقيود، ويعاني من "اغتراب مزدوج": اغتراب عن السلطة التي قد يخدمها أو يعارضها، واغتراب عن المجتمع الذي يفترض أنه يمثله. راجع: محمد غازي الأخرس، جحيم المثقف: الثقافة والأيديولوجيا في العراق 1945 - 1980 (بغداد، منشورات نابو، 2021)، ص ٢٩ - ٣٥.

  9.  من الجدير بالذكر أن النهر يأخذ حيزاً كبيراً في رواية "خمسة أصوات" كموقع تتردد إليه الشخصيات للهرب من صخب المدينة والحياة اليومية؛ يصفه غائب طعمة فرمان بعناية، مثل رائحته الطينية، أواستدارته التي تفصل جانبي مدينة بغداد، أو تصويره كموقع تستقر فيه رفات الأجداد. راجع: غائب طعمة فرمان، خمسة أصوات (بيروت، دار الآداب، 1967).

  10.  يشير الكاتب محمد غازي الأخرس إلى أن المثقف العراقي الحديث لم يتطور بشكل طبيعي أو تدريجي، بل ظهر وسط تغييرات مفاجئة وعنيفة في المجتمع، مثل الانقلابات والثورات وصعود الأحزاب الأيديولوجية. هذا جعله يعيش حالة من التوتر، ممزقًا بين الرغبة في التغيير والخوف على النفس، وبين المبادئ والمصلحة. وعلى عكس ما قد يُظن، لم يكن المثقف العراقي حرًّا تمامًا في التعبير أو اختيار موقعه داخل المجتمع، بل كان يتأثر بقوى خارجية مثل السياسة، الأحزاب، القبيلة، وحتى العائلة. لذلك، فكرة "المثقف المستقل" كانت نادرة، وغالبًا مجرد وهم. راجع: محمد غازي الأخرس، جحيم المثقف: الثقافة والأيديولوجيا في العراق 1945 - 1980 (بغداد، منشورات نابو، 2021)، ص ٢٩ - ٣٥.

  11.  راجع: فن خانة، بغداد.

  12.  يقيم نادي السينما عروضه في بناية اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، في البصرة القديمة. علمنا من خلال مقابلة أجريناها مع محمد صباح (مدير النادي) أن النادي تأسس في 2016 ليس بدافع عرض الأفلام فقط، وإنما لخلق مساحة للحوار ولحماية المباني التراثية المهددة بالاندثار في البصرة.

  13.   راجع: فيلم غير صالح للعرض من إخراج عدي رشيد (2005).

  14.  راجع: نادي سينما السماوة في السماوة، ونادي السينما في البصرة، ونادي الأفلام في فن خانة في بغداد، نادي Youth Art Cinema Club في دهوك.

  15. بعد رفع العقوبات عن العراق عام 2003، عادت عروض الأفلام تدريجيًا إلى دور العرض التجارية، إضافة إلى المؤسسات الخاصة والحكومية. وبحلول عام 2023، تجاوز عدد صالات السينما في الأسواق التجارية أكثر من أربعين صالة في بغداد وعدد من المحافظات الأخرى. وبفضل هذه البُنى التحتية وقدرتها على استيعاب أعداد كبيرة من الجماهير، أصبحت المؤسسات الحكومية والخاصة تهيمن على المشهد الثقافي المرتبط بعروض الأفلام، حيث تستضيف معظم المهرجانات المحلية وبرامج عروض الأفلام العالمية والمحلية.

  16.  لسياق أوسع عن تاريخ السينما في العراق، راجع: "دور السينما.. أطلال مهملة وإرث مندثر" العالم الجديد، 10 سبتمبر 2023.

  17.  جلسة حول كتابة السيناريو بإشراف السيناريست العراقي حامد المالكي عام 2017 في جامعة بغداد/ كلية الفنون الجميلة حضرها علي شمَيِّلْ.

  18.  راجع مقال: "عراقي يعيد من منزله وهج الفن السابع"، MEO، أغسطس 2018.

  19.  كذلك هناك عروض شبه سنوية تنظمها "وثائقيات عراقية" تحت عنوان "جودلية"، تستحضر جماليات البيت العراقي في مكان العرض المستضيف، فيجلس الحضور على "جودلّيات" – فراش إسفنجي منتشر في غرف المعيشة العراقية – ويشاهدون أفلامًا وثائقية محلية وعالمية وسط قاعة تسمى The Gallery وهي مؤسسة خاصة تستضيف نشاطات فنية متعددة. راجع إعلان: أمسية "جودلية" لعروض الأفلام، 1 سبتمبر 2023 بغداد.

Copyright ©