قنا: أين تذهب هذا المساء حيث لا مكان؟ 

بقلم أحمد تاج
بعد نقاش مع أمين الهلالي عن نادي سينما قوص

على مساحة تقدر بتسعة آلاف كيلومتر مربع، وتعداد سكاني يتخطى الثلاثة ملايين.. لا توجد سينما واحدة في قنا. 

في مركز قوص التابع لمحافظة قنا، نشأ أمين الهلالي وحمل شغف تجاه السينما لكنه لم يجد له مكاناً، حيث لا توجد أية قاعات عرض سينمائي في مركز قوص سوى سينما عبد الوهاب، والتي أغلقت أبوابها منذ عشرين عاماً.

أمين: فاكر طشاش إنها (سينما عبد الوهاب)  كانت بتعرض أفلام زي «همام في أمستردام» بداية الالفينات وقفلت. أنا مدخلتهاش السينما دي، ملحقتش (..) السينما عندنا  كان ليها سمعة سيئة، الناس اللي بتروح السينما زمان كان بيتقال عليهم كلام، إنهم بيحضروا أفلام فيها حاجات خليعة أو بوس أو مخدرات، ده كان المتداول وقتها.

كان هذا الخواء محفزاً لأمين لكي يبدأ مساحة بديلة لعرض وتداول الأفلام في مجتمع محافظ يتعامل مع السينما كمكان لمشاهدة أفلام خليعة، وكانت مبادرة أمين تحديًا من أجل مناهضة ما تمثله السينما للمجتمع المحيط من مساحة غامضة أو منحلة أخلاقيًا. بدأ أمين تجربته في عام ٢٠١٠ بإنشاء جمعية “قوص بلدنا” بغرض إحياء المشهد الثقافي في قوص، وكان ذلك من خلال مساحة قصر الثقافة في قوص. وفي عام ٢٠١٦ بدأوا في تجربة نادي السينما والتي كانت محاولة بشكلٍ هاوٍِ ما لبثت أن تطورت حتى أصبحت مساحة لشراكات مع مهرجانات وورش عمل وجلسات نقدية أهلت فريق عمل النادي لحضور ورش عن برمجة وتسويق الأفلام فيما بعد. 

أمين: إحنا على مدار خمس سنين شغالين، النادي تناوب على إدارته ناس كتير ولاد وبنات (..) ده نتج عنه في قوص إن في شباب بدأنا ندعمهم يعملوا أفلام. كل علاقتنا بالأفلام إننا بنتفرج عليها لكن زمان مكانش في حد يعلمنا (…) من خلال نادي السينما استضفنا ناس وعملنا شراكات مع مهرجانات أفلام ومن خلال ده الناس بدأت تيجي تدي ورش (..) عملنا تعاون مع مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية وناس من رواد النادي راحوا حضروا ورش، وعملنا تعاون مع مهرجان أفلام الهجرة وناس من الشباب حضروا الورش و أخدنا من أفلامهم (للعرض).

نادي سينما قوص تصوير أيمن الهلالي

لكن، وعلى الرغم من محاولات النادي لخلق زخمًا سينمائيًا في قوص خصوصًا ومحافظة قنا عمومًا، كانت هناك ريبة دائمة من المجتمع المحافظ المحيط تجاه التجربة مما وضع النادي ومنظميه على طريق من الشوك بشكل مستمر، حذر لا ينتهي من ردة الفعل ترتب عليه تحجيم نشاط  “نادي سينما قوص”.  


أمين: ممكن صانع الفيلم ميفكرش في الجمهور،  كنت أقابل صناع أفلام عرب وأجانب ونتكلم في مدى ملاءمة الفيلم ده للعرض في مكان زي قوص (..) دايما الناس بره فاكرة إن الجمهور في مصر جمهور واحد، ده غلط، جمهور القاهرة مختلف تمامًا عن جمهور الصعيد. ممكن فيلم ينزل القاهرة الناس تتقبله عادي ولكن في الصعيد لا، الناس متتقبلوش ومتشوفوش وممكن تهاجمه (..) كان مهم إن المخرجين العرب والأجانب يعرفوا إن جمهور مصر مش جمهور واحد ومش جمهور القاهرة فقط.

تبقى الرهبة من المجتمع في سياق “نادي سينما قوص” أحد أهم مقيدات النشاط السينمائي، حيث يستمر اعتقاد الأغلبية بأن السينما مساحة مجهولة وبالتبعية مقلقة وتستلزم رقابة على ما يعرض، الأمر الذي يمكن أن يطرح عدة أسئلة: هل يمكن اعتبار هذا القلق المجتمعي نتيجة عارضة لغياب السينما؟ وهل من الممكن أن تتغير تلك النظرة تجاه السينما إذا ما تواجدت مساحات سينمائية بشكل أكثر في المحيط الثقافي لقنا عمومًا ولقوص خصوصًا؟ وكذلك ما هي الأفلام أو المواضيع التي يمكن أن تسبب “مشكلة” وكيف يمكن أخذ  الإطار الثقافي المحلي في الاعتبار عند وضع برامج العروض؟ 

انتقالًا من فعل المشاهدة إلى الصناعة، تطرق أمين إلى الحلقة الناقصة لكي ينمو مشهد سينمائي في الصعيد به عدد كاف من الصناع لإنتاج أفلام بشكل مستمر، هل ينقصهم المعدات؟ أم التمويل؟ أم شبكة العلاقات؟

أمين: مش هكلمك في ماتيريالز، أنا هكلمك في تعليم وإزاي تنمي فكر، أنا عشت في القاهرة فترة وشفت ناس (من مؤسسة تعليمية دولية) بتعمل أفلام ساذجة جدًا وهما عندهم ماتيريالز رهيبة جدًا وبيستخدموا كاميرات (متطورة) جدًا بس الفيلم لما تتفرج عليه تلاقيه متواضع، لما بفكر بفكر إن مش عاوز ماتيريال  أنا عايز أنمي فكر رواد السينما اللي عندي وأديهم ورش عمل في إزاي يقدروا يكتبوا سيناريو كويس ويعملوا منه فيلم، قبل المايكات والكاميرات وكل حاجة. إحنا بنعمل جزء من ده بإننا بنعرض أفلام، مشاهدة أفلام من مدارس مختلفة جزء من تعليم السينما.. أنا بشوف الفيلم بيتعمل إزاي وبيتكون عندي رؤية ووجهة نظر. إحنا بنشتغل بجهود ذاتية، بالعافية جدًا بتقعد تدور فترة عشان تلاقي حد بالكاميرا اللي عايز تشتغل بيها أو بتشتغل باللي معاك. إحنا شغالين على القد، اللي نلاقيه بنشتغل بيه. فاهمني؟

يطرح أمين -بالإضافة إلى غياب البنية التحتية للسينما في الصعيد- غياب البنية التحتية الأساسية مما  يجعل محاولات الشغوفين بصناعة الأفلام متأخرة بخطوات كثيرة عن أقرانهم في القاهرة، فيقول أمين: 

في ناس بتقولك ممكن أعمل ورش أون لاين، إحنا شوية عندنا الفكر ده مش منتشر. أنا عندي بيوت ناس صحابي معندهمش نت مستقر(..) تلاقي الناس في القاهرة تقولك كل حاجة موجودة ع الانترنت، يا شباب يعني اللي عايز يشتغل بيجتهد ويدور ويعمل، بس إحنا فعلًا في ناس معندهاش خدمات انترنت مستقرة. دي حقيقة.

يضيف أمين أنه بجانب الصعوبات التي يحملها المشهد السينمائي في الصعيد، توجد امتيازات في القاهرة تتعلق بالقدرة على التقديم للمؤسسات المانحة ووفرة الخبرات في الإدارة الثقافية والتي يفتقدها النادي ومجتمع المهتمين بالأفلام في الصعيد عمومًا وفقًا لأمين:

أمين: إحنا مش شاطرين في كتابة المقترحات.

كلنا، كلنا بنهبل يعني. ممكن أبقى شاطر على أرض الواقع لكن مش عارف أقدم عليه (التمويل). وفي ناس شاطرين في التقديم لكن على أرض الواقع مش شاطره. دي حاجات إحنا بنفتقدها. بتوع القاهرة طبعًا شاطرين جدًا في الموضوع ده، يعني مثلًا كنت في ورشة عمل مع (جهة مانحة دولية) كنا ٤ مصريين، ٣ من القاهرة وأنا الوحيد من هنا. هما شغالين، يعني أقعد مع حد يقولي أنا شغال مع (مؤسسة ثقافية دولية) مش عارف بعمل إيه. يعني طب ما إنت أكيد يعني بتاخد خبرات أكتر مني بمراحل وأنا قاعد أصلاً في الصعيد مش عارف حاجة، فاهمني؟ وممكن هما يكونوا أصغر مني سنًا ولكن شاطرين عني عشان اتوفرلهم حاجات متوفرتليش.

تصوير أحمد تاج

إذا، وبما أن كل الطرق تؤدي إلى هناك، ومنها وإليها نعود.. فلما لا نذهب  إلى القاهرة؟ يجيب أمين: 

أنا دلوقتي عايش ف الصعيد أنا مش عايز أنزل القاهرة أعمل أفلام، القصص والحكايات اللي عايز أحكيها موجودة هنا في المجتمع اللي أنا عايش فيه وده اللي أنا هبقى شاطر فيه. الحياة كمان مختلفة جدًا. العيشة هنا رخيصة، في القاهرة غالية جدًا. غير كده فكرة إن الحياة هنا هدوء وجميلة، القاهرة زحمة جدًا. كمان الطباع، إحنا هنا متعودين على طباع معينة. في القاهرة بنصطدم بناس ولاد هرمة. 

من الأسباب الاساسية لأزمة صناعة الأفلام في الصعيد – بحسب أمين- هي مركزية الموارد والامتيازات وحتى البنية الأساسية المستقرة نسبيًا في القاهرة وكذلك مساحات تبادل الخبرات والمعلومات، الأمر الذي يدفع صناع الأفلام في الصعيد إلى سؤال: كيف يمكن كسر هذا التمركز القاهري (والسكندري أيضًا) للسينما المستقلة؟ هل الحل هو خلق  تكتلات سينمائية في الصعيد قادرة على تبادل الخبرات؟ أم في إيجاد طرق للتمويل الذاتي؟

عند الحديث عن مستقبل النادي، بدأ أمين في استرجاع  أول عرض للنادي في عام ٢٠١٦ والذي كان بمثابة نقطة الانطلاق لرحلة النادي وعرض أمين تصوراته وقتها عن التجربة:

إحنا كنا ١٩ أو ٢٠ سنة وقت أول عرض، عرضنا فيلم Hotel Rwanda وكان فيلم تقيل لكن الحضور كان كتير. وحتى المناقشة بعد الفيلم كانت مناقشة ثرية جدًا. كان عندنا تخوف إننا نطلع ترتيباتنا مش كويسة أو تحصل مشاكل تقنية أثناء العرض، إن اللابتوب مثلاً يفصل خلال الساعتين وخصوصًا إننا ماشيين بمعدات ماشية بالزق، أو حتى إن الناس متحبش التجربة، إن محدش ييجي أو إن الناس تيجي وتشوف الفيلم بايخ فتمشي من النص. كل دي كانت تخوفات. من أسعد اللحظات إني كنت بشوف الناس بتتفرج ومنتبهة للفيلم أو حد يطلع يكلم صاحبه يقوله تعالى الفيلم حلو تعالى. فكنت بتبسط وبحس إننا أهو بدأنا نعمل حاجة مؤثرة. كانت تصوراتنا بسيطة وبدأنا نتعلم بالتجربة والخطأ إزاي نبرمج أفلام وندير النادي ونسوق له مع الناس ومع صناع أفلام ونقاد. 

نادي سينما قوص تصوير أيمن الهلالي

كان الدافع وقتها، وفقًا لأمين، هو تطوير مساحة ينمو فيها عدد المهتمين بالأفلام لأنه كان من الصعب وقتها إيجاد دائرة من المهتمين بمشاهدة الأفلام أو صناعتها، فكان الحل الوحيد هو خلق تلك المساحة والتي يمكنها أن تتخطى توفير مجال لممارسة فعل المشاهدة والنقاش إلى دعم الصناعة ودعم الآخرين بشكل تطوعي:

أنا والأصدقاء اللي بدأنا النادي كنا شغوفين بالسينما وعايزين كل الناس يبقوا شغوفين بيها زينا.
ده كان معناه بالنسبالي اني ألاقي ناس هنا، أتكلم مع ناس بتحب الأفلام، نادي السينما خلق المساحة دي. النادي خلق (مجتمع) من المهتمين بالسينما وصناع الأفلام اللي كانوا من رواد النادي. وقت ما بدأنا النادي مكناش نسمع عن صناع أفلام حوالينا لكن النادي ساعد بشكل مباشر وغير مباشر أن يكون حولنا مخرجين بيعملوا أفلام وبيروحوا مهرجانات. ده نجاح لينا ولصحابنا اللي بيعملوا أفلامهم.

تصوير أحمد تاج

ومن تلك النقطة، يطمح أمين لتوسيع عمل النادي بشكل يجعله أكثر احترافية من خلال فهم عملية الإدارة لمساحة سينمائية مستقلة:

حاليًا، بفكر إن فيما بعد يكون في قاعة عرض خاصة بينا بشكل محترف وآخد أفلام من منتجين وموزعين  وصناع  أفلام وأعرضها. كمان إننا نبقى بندعم صناع الأفلام في المحيط بتاعنا. إحنا بنعمل ده حاليًا بشكل مباشر أو غير مباشر(..) يعني مثلًا حد من صحابنا بيعمل فيلمه فأنا بعرف أمنتج مثلًا فبساعده بشكل تطوعي، حد بيصور فبساعده بشكل تطوعي. إحنا عاملين حاجة زي وحدة إنتاج أفلام ولكن بشكل عفوي. هو تجمع سينمائي من الناس اللي بتحب الموضوع فبنساعد بعض بأفكار أو تنفيذ أو علاقات شخصية. إحنا عاوزين إننا مش كل واحد يشتغل لوحده وإن يكون في حد بيساعدنا إزاي الـ networking ده يكون منظم أكتر وإننا نفهم أكتر عن حاجة زي الإدارة الثقافية مثلًا.. محتاجين نتعلم إزاي نتعامل مع مانحين أو مع المصالح الإدارية أو الحكومية الموجودة وإزاي يبقى عندنا معرفة بالإدارة المالية لمؤسسة ثقافية. دي حاجات ناقصانا في الوقت الحالي محتاجين نعرفها. 


أحمد تاج

أحمد تاج، صانع أفلام وفنان بصري ومنتج تأثير (impact producer). مشغول بقضايا حرية التعبير والحوار بين الثقافات ودمقرطة الفن من أجل التغيير الاجتماعي. بدأ اهتمامه بصناعة الأفلام في عام ٢٠١٧، حيث شارك في كتابة وتصوير وإخراج سبعة أفلام قصيرة، شاركت أفلامه في عدد من المهرجانات وحاز على جائزتين عن أفلام “اسكندرية” و “١٤ أغسطس ٢٠١٧: المستقبل”.


مقال أحمد تاج متوفر بنسخة PDF. للتنزيل، إضغط/ي على الزر بالأسفل.

%d مدونون معجبون بهذه: