تحرير الشاشة المغربية من الاستعمار!
بقلم عمر برادة
“بالنسبة إلينا، فإن التاريخ باعتباره وعياً ساريًا، وتجربة معاشة، ليسا من اختصاص المؤرخين وحدهم”.
إدوار غليسان Edouard Glissant، “خطاب الأنتيل”، ١٩٨٦.
حين ترك المستعمرون المغرب، كان أحمد البوعناني (١٩٣٨-٢٠١١) يبلغ من العمر ١٨ عامًا. ينتمي البوعناني إلى جيل من الفنانين الذين تعلموا في ظل الحكم الاستعماري والذين بلغوا سن الرشد في فترة الاستقلال. بدأ مسارهم الفكري وسط حقل يغمره الخراب. وكان شعارهم “وضع حد للاستعمار الثقافي”. في هذا السياق، كانت الذاكرة هي الرهان الأساس في نظر البوعناني، إذ اعتبرأنه من الضروري “إعادة تشكيل ذاكرة ثقافية متوقفة”، وإعادة بناء مشهد حميمي بالاعتماد على الشظايا التي لا يزال من الممكن انتزاعها من الاستلاب. ولتحقيق هذه الغاية، سافر البوعناني في مناطق المغرب كي يوثق أشكال الفنون الشعبية وكي يجمع ما ينقل شفهياً من تقاليدها. ونَظَم القصائد الشعرية وألف روايات وكتب دراسات وأعد مسرحيات، حيث تُعبّر الذاكرة الجماعية عن ذاتها بأشكال قابلة للمشاركة. لقد كتب وأخرج وقام بتوليف شرائط فلمية، سعى فيها إلى إلقاء نظرة على التاريخ بجرأة.
وبعد أن عانى من الترهيب والرقابة، انعزل البوعناني عن المشهد العام، مع استمراره في دعم جهود الكُتاب والمخرجين الشباب. فكاد يطمر في النسيان. “ذاكرتنا شاسعة. أملنا أن تستعيد إيقاع فترة شبابنا”. 1أحمد البوعناني، “الذاكرة ١٤” “Mémoire 14” ، ضمن ديوان “المشربيّات” Les Persiennes. منشورات الستوكي، ١٩٨٠.
يعد “الباب السابع” سرداً عن ولادة سينما وطنية مغربية، يتناول الأفلام، الواحد تلو الآخر، وهو أمر كان يبدو مستحيلاً وضروريًا في الوقت نفسه في العام ١٩٨٦. إنه استطلاع تاريخي أجري على الرغم من عدم توفر الوثائق، أو ربما بسبب غيابها. يرسم البوعناني لوحةً مستفيضة عن “العتمة الاستعمارية”، من أولى الإنتاجات الأوروبية التي صوّرت في المغرب، إلى الإنتاجات المحلية في الثمانينيات. لقد شاهد جميع الأفلام، وقرأ جميع الكتابات النقدية، ودرس جنريك الأفلام عن قرب. وحاول تتبع الظهور الأول لممثلي شمال إفريقيا في الأفلام الاستعمارية. وحرص على فهم سياسات الإنتاج والتوزيع. وكان متنبهًا الى تقنيات المونتاج، والإيديولوجيات السردية، والفوارق اللغوية الدقيقة.
“الباب السابع”، ليس تركيبًا جافاً، إذ أن المؤلف هو بالأساس سينفيلي وسينمائي، منخرط في التاريخ الذي يرويه، والذي يُعلق من خلاله على أفلامه حتى، وبنوع من القسوة أحيانًا.
لا ينفصل هذا المشروع عن عمله الفني، وإنما يشكل جزءاً لا يتجزأ من المشروع الواسع الذي أعلن عنه في جملة واحدة: “تحرير الشاشة من الاستعمار”2راجع الصفحة ٢٠١ من الكتاب.، أي تقديم صور للقراء والمشاهدين تُمكِّنهم من التعرف على ذاتهم من خلالها. وكما صرح في مقابلة في العام ١٩٧٤: “أنا لا أدعي، مثل البعض، إنقاذ السينما المغربية من خلال إنتاج فيلم روائي طويل، ولا أدعي كذلك أنني سأنتج تحفة فنية. (…) بل إني أطالب بالحق في إنتاج أفلام رديئة، وهذه ليست مزحة. طموحي الوحيد – وهذا طموح جميع السينمائيين المغاربة – هو أن يعتاد الجمهور على رؤية ذاته على الشاشة، ورؤية مشاكلاته تُعالج على سطحها، ومن ثم تمكينه من الحكم على نفسه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه”. 3“الفيلم الذي لا يتجذر بعمق في واقعنا لا يهمني”، مقابلة أحمد البوعناني مع نور الدين الصايل، في جريدة “مغرب- أنفورماسيون” (أخبار المغرب الكبير)، عدد يونيو ١٩٧٤.
إن تحرير الشاشة من الاستعمار لا يعني مجرد الوصول إلى وسائل الإنتاج، وليس مجرد أخذ مكان المستعمرين من خلال التموضع خلف الكاميرا، إذ يسهل إلقاء نظرة مستلَبة على الذات، ورؤية الذات من خلال عيون المحتل السابق. إن تحرير الشاشة من الاستعمار، يقتضي أن تصبح الذاتية أمراً بديهياً. مما يعني أن الذات ليست مجرد موضوع، بل إنها أيضًا فاعل في نظرة جمالية، هي بالتالي نظرة سياسية أيضًا. وهذا ما عبر عنه عبد القادر شبيه، في مقال له بعنوان “صورة المغربي.. سراب؟”، نُشر في العام ١٩٨٠ في جريدة “الميثاق الوطني”، الناطقة بالعربية، عن “السراب”، الفيلم الروائي لأحمد البوعناني:
“يبحث المغربي اليوم عن صورته، لغته، خصوصياته من خلال سينما مغربية، وأدب مغربي، وحضور ثقافي ينمو في تربة البلد.
الصفوف الطويلة أمام قاعة الفن السابع بالرباط، حيث “سراب” البوعناني، لا يعني أن المغاربة يهربون (سأماً) إلى ظلام القاعات بل (فرحاً) إلى صورتهم وكيانهم وحقيقتهم.
لقد عاش المغاربة زمناً طويلاً، منفصلين بل مستأصلين عن كل القنوات التي تؤدي إلى المرآة. وهم اليوم من خلال اليقـظـة الظرفية للمـركز السينمائي المغربي، الذي يعيش سباتاً أسطورياً، يـعايـشون ذواتـهم، ولو لبـضـع ساعـات…”.4عبد القادر شبيه، “صورة المغربي … سراب؟ “، جريدة “الميثاق الوطني”، عدد ١٣ فبراير ١٩٨٠.
هل كان أحمد البوعناني يعلم حين كتب “الباب السابع”، أن فيلمه الأخير كان خلفه؟ هل أدرك أن هذه الدراسة التاريخية ستبقى، شأنها شأن معظم كتاباته، غير منشورة لفترة طويلة؟ هل “الباب السابع” تشريح حلم، أم أنه مرحلة على درب الأمل المليء بالمصاعب؟
***
“في الواقع، أتمنى أن يكتب شخص آخر هذا التاريخ، ولكن، ها أنا قد خضت غمار ذلك”5“أحمد البوعناني، كاتب مذكرات سينما بلا ذاكرة”، مقابلة مع محمد جبريل، ضمن “فيزيون مكزين” (مجلة الرؤيا)، العدد التاسع، ١٩٩١.. إذا كانت آخر النصوص المكتوبة بخط يده التي بحوزتنا عن “الباب السابع” قد كُتبت في العام ١٩٨٧، فإن التحرير الأول لهذا المؤلف يعود إلى عامي ١٩٦٦-١٩٦٧. كان هذا المؤلف بالنسبة للبوعناني مشروعًا طويل الأمد، غالبًا ما تم تأجيله والعودة إليه مرات عدة. علينا أن نتخيل الكاتب والمخرج السينمائي والمؤرخ ينخرط بحماس في العمل، في كل مرة، من دون أن يغفل مراعاة الظروف المتغيرة. “صحيح أنه في مطلع العام ١٩٧٠، كان يواجه مشكلات حياتية حادة، وبالتالي كان مرغماً على وضع الإبداع في مرتبة ثانية. إلا أن الخطأ العميق يعود إلى موقف الانتظارية المطمئنة والرغبة في عقد كل الآمال على العصا السحرية للدولة”6راجع الصفحة ١٣٩ من الكتاب.. لكن بعد ثلاثين عامًا من الاستقلال، وعلى الرغم من المبادرة الطيبة المتمثلة في إحداث صندوق دعم الإنتاج السينمائي، لا تزال الصعوبات، العملية والجمالية، قائمة بخصوص إرساء بنية تحتية مستدامة للسينما في المغرب. لقد ارتفع (حقاً) عدد الأفلام الروائية التي يتم إنتاجها، ولكن نادرًا ما تُحترم شروطها. يعيد البوعناني بناء مراحل المسار الذي قطعته السينما في بلادنا، بغية التعرف على الثغرات والأزمات والطرق المغلقة والآمال التي ما زالت ممكنة. إن انكباب هذا السينمائي على التاريخ، يوضح الحاضر: “لا نملك الحل السحري، إننا نحاول فقط أن نرى بوضوح داخل الإعصار، ونرفض السقوط في الانبهار بالطفرة التي حصلت في الإنتاج الوطني، لذلك دعونا نعود إلى التاريخ، لأنه إذا كان بلدنا يعاني من مرض القرن، فهو يلحق ضرراً خطيراً بالذاكرة “.
بالنسبة إلى البوعناني، كانت كتابة هذا النص ضرورة حميميّة، ومسؤولية أيضا، تحمّلها من باب الواجب. “يركز عملنا على المعلومات التاريخية ويعتمد على التحليل النقدي. فمهما كانت نظرتنا صارمة وبدون مجاملات، وقاسية في غالبية الوقت وربما جائرة، فإن القارئ والسينمائي وعاشق السينما، أو ببساطة كل شخص لديه حب الاستطلاع، سيجد زاوية للطعن في المنظور الذي اخترناه. إن نزاهتنا تتناسب مع مسؤوليتنا”7راجع الصفحة ١٢ من الكتاب.. هذا الكتاب، الذي يعبر عن آراء شخصية للغاية، يتضمن في الواقع تعبيراً عن صوت جماعي: جماعة السينمائيين-المتطلعين (إلى) سينما متحررة من الاستعمار؛ جماعة الشعب الذي يأمل في التعرف الى ذاته على الشاشة… لذلك، لا ينبغي أن تؤخذ الانتقادات المعبر عنها بخصوص هذا الفيلم أو ذاك بشكل حرفي. إنها ليست تهجّما شخصيا أبدًا، بل هي العودة الدائمة إلى الملاحظة التالية: تلك الخاصة بصعوبة التغلب على المتغيرات المالية أو التقنية أو الاجتماعية أو التاريخية لتلبية متطلبات الفن في النهاية.
يُعدّ “الباب السابع” الى حد ما، سرداً للعوامل التي تعيق ولادة السينما المغربية، وولادة نظرة تتساوى مع ما تصفه، نظرة لن تتعامل بتعال مع البلاد وسكانها. إنه كتاب حول السينما بصيغة ملحمة من دون أبطال. ملحمة سلبية تطفو على سطحها إستثناءات هشّة، يصفها المؤلف بمزيج من الامتنان والحسرة. وكما أن عفيفي أخرج فيلمين قصيرين فقط، بدا الرشيش وكأنه توقف بعد أعماله الرائعة الأولى. “وكأننا أمام نفس الصفحة السينمائية التي تتكرر، صفحة من ١٩٦٧ بعنوان محمد عفيفي”.8راجع الصفحة ١٠٢ من الكتاب.
ليس هناك نقص في المواهب، ولا في الإرادة، لكن الاستمرارية كانت مفقودة، وتناقل التجارب بين الفنانين كان منعدماً. بعد ثلاثين عامًا من الاستقلال، تَعِد السينما الوطنية وعدًا معلقاً. ومن هنا تأتي أهمية هذا النص الذي يراهن على المستقبل، بإعادة قراءته للماضي. يمكن أن نتساءل عمّا كان سيكتبه البوعناني اليوم، بعد مرور ثلاثين سنة.
*
يتدرج “الباب السابع” وفق تسلسل زمني. ومع ذلك، غالبًا ما يوقف المؤلف مؤقتًا تعاقب الأفلام والسنوات، وكأن الشاعر الذي بداخله يحتاج إلى الهروب من التسلسل الزمني للتركيز على موضوع ما، مدينة، شخصية متكررة، ونموذج أصليّ خيالي. تجنب البوعناني بطريقته الخاصة صمت الأرشيف والمسكوت عنه في التاريخ الرسمي. إنه يعلم جيداً أن الحقائق والتواريخ لا تستطيع كشف كل شيء، وأن عليها أحيانًا أن تفسح المجال للأحلام والتطلعات، بل وإلى خيبة الأمل. “كان من الضروري تصحيح المسار وترجمة تقلبات الذاكرة التي أغفلت عن قصد (أو) من دون قصد الزمن الماضي والتعبير من خلال الأسطورة أكثر من الاعتماد على التاريخ، عن الانسجام الزائف أو المتواطئ، الطوباوي أو الصادق لصورة نمطية متجاوزة، تباع في الأسواق بنفس سعر “الروض العاطر” و”رباعيات” المجذوب9راجع الصفحة 107 من الكتاب.. يعد “الباب السابع” نصاً هجينا، تاريخيا ًوأدبياً، في الوقت نفسه. وقد يعود تقيُّد البوعناني بهذا الانضباط الدقيق في البحث، إلى رغبته في إضفاء الموضوعية قدر الإمكان، على رحلة عبر ذاكرة مشحونة بالعاطفة.
حين كان البوعناني يحرر كتابه، كان النقد السينمائي مجالاً ضيقاً، يشتغل فيه عدد قليل من الأفراد. وهم: محمد جبريل وزكية داود في مجلة “لامالف” (لا ألف)، ونور الدين الصايل في مجلة “سينما ٣” ثم في “مغرب- أنفورماسيون”، ونجيب الرفايف في جريدة “المغرب”، الذين سعوا إلى توسيع مجال كان يخطو خطواته الأولى10علينا أن نضيف بأنه، فيما يتعلق بالسينما الاستعمارية، اعتمد البوعناني أساسا على دراسات “كي هينيبيل Guy Hennebelle و بيار بولانجي Pierre Boulanger . وكان البوعناني يدرك ذلك تمامًا. على الرغم من بحثه المكثف، فهو يعلم أنه قد مهّد الطريق فقط للكتابات القادمة. “نأمل من جانبنا أن نكون قد أوجزنا عناصر معينة لدراسة ستفسح المجال لمقاربات عميقة بخصوص السينما المغربية، وجمعنا أكبر عدد ممكن من الوثائق مما سيوفر ربحا هاما للوقت لأجل الأعمال المستقبلية للمكتبة الوطنية للأفلام، التي يتعين تأسيسها”11راجع الصفحة ١٢ من الكتاب.. وكون هذا العمل قد تطلب أكثر من ثلاثين عامًا ليأخذ طريقه إلى النشر، ولم يصدر أي عمل تركيبي من نفس الطموح طيلة هذه المدة، فإنه يؤكد بشكل ساخر الإقرار بضرورته.
يكمن جزء من الجمال المؤثر لهذا الكتاب في كونه يترك باب الأمل مفتوحاً، على الرغم من تقلبات التاريخ ورغم قسوة الحكم. والدليل على ذلك، التحليلات التي قدمها البوعناني لأفلام مومن السميحي وأحمد المعنوني والجيلالي فرحاتي، ومحمد أبو الوقار، وآخرين. وما يشهد مرة أخرى على ذلك، الفصل الرائع المكرّس لمحمد عصفور، “المنحدر من شعب محروم من الكلام، وأمي ومصاب بمسّ جنون عذب، والذي عند ذهابه إلى السينما كان له رد فعل سليم للغاية، حين قال مع نفسه: ‘ولِمَ لا أنا؟’12راجع الصفحة ١٣ من الكتاب. “. ردد البوعناني أكثر من مرة: “لا تتوقف السينما والفن بشكل عام (أو لا ينبغي أن يتوقفا) على التعليم أو الامتيازات. وحين يطرح بعض المتطلبات، كالحس النقدي والوعي السياسي والحساسية، فإنه لا يدعو إلى أي نموذج. في السينما، لا يهم لا الإتقان التقني، ولا التحذلق الفكري، وإنما قوة الرؤية. أما التقنيات، فيمكن اكتسابها. ويتمسك البوعناني بفكرة مفادها أن الفن يكمن في قدرة الفنان في الحفاظ على ما في داخله وعلى جزء من طفولته، وبفكرة أن كل شعب يحمل ثقافة حية وأن الأمر يتطلب، قبل كل شيء، اختراع الأشكال لتجديدها.
قد يبدو أن مؤلف “الباب السابع” مستسلماً في بعض الأحيان، كما لو أنه يقيّم حالة نصف فشل. لكن شغفه والتزامه الفكري يبرزان في كل صفحة. إن البوعناني مُنساق، رغماً منه تقريبًا، عبر أنفاس كتاباته. كتاب التاريخ هذا المليء بالأسماء والتواريخ يُقرأ وكأنه رواية. رواية فوضوية لميلاد مليء بالقلق والاضطراب. إنه رواية الصورة التي تتجمّع، شظية بعد أخرى في المرآة المكسورة. ربما تكون السينما آخر مكان ممكن لهذه الصورة المشتركة، الملاذ الأخير للحلم المتقاسَم. عند تأليفه لهذا الكتاب، قدم لنا أحمد البوعناني، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، هدية ثمينة تتمثل في نظرة غير مجاملة عن أنفسنا، وإدراكًا منه للطريق الذي يتعين علينا قطعه، دعا إلى أعمال أخرى من شأنها أن تنتقد أعماله وتكملها وتواصل مسارها. لقد حان الأوان لسماع دعوته.
الباب السابع – تاريخ السينما في المغرب من ١٩٠٧ إلى ١٩٨٦
بقلم أحمد البوعناني،
ترجمة نور الدين سعودي،
مراجعة محمد الخضيري
كتاب صدر تحت إشراف تودة البوعناني وعمر برادة
منشورات “كيلت” 2022
المونتاج، همي الجميل13هذا العنوان الفرعي غير موجود في المخطوط، وقد أضافه الناشر.
“سواء أنجبت الأرض أو لم تنجب،
سواء تدفقت الجداول عسلا أو دما،
سواء أصاب العمى نظرنا أو توقف،
فذاكرتنا ممتدة،
يا ليتها لو استعادت إيقاع فترة شبابنا ! “14تم العثور على هذه الأبيات منشورة في المقطع الأول، من القصيدة الطويلة “الذاكرة ١٤”. راجع أحمد البوعناني: ديوان شعر “فتحات النوافذ”، Les Persiennes. الرباط: منشورات الستوكي، ١٩٨٠، ص ٦١.
“سواء أنجبت الأرض أو لم تنجب،
سواء تدفقت الجداول عسلا أو دما،
سواء أصاب العمى نظرنا أو توقف،
فذاكرتنا ممتدة،
يا ليتها لو استعادت إيقاع فترة شبابنا ! “15تم العثور على هذه الأبيات منشورة في المقطع الأول، من القصيدة الطويلة “الذاكرة ١٤”. راجع أحمد البوعناني: ديوان شعر “فتحات النوافذ”، Les Persiennes. الرباط: منشورات الستوكي، ١٩٨٠، ص ٦١.
إن شريط “الذاكرة ١٤”، لأحمد البوعناني، الذي شرع في تنفيذه في العام ١٩٦٩ وحقق تصويره والإنتهاء منه بعد عامين، هو الفيلم الوحيد المعتمد على المونتاج في المـركز السينمـائـي المغربي و”الفيلمـوغـرافـيا” الوطنـية، من العـام ١٩٥٦ إلى يومنا هذا.
هناك، طبعاً، ومنذ العام ١٩٥٦، استطلاعات اعتمدت المونتاج، مثل “عام على الاستقلال” للعربي بن شقرون، و”العودة المظفرة”، من إخراج مجموعة من التقنيين. وهو المثال الوحيد للأفلام الروائية الطويلة، حيث بلغت مدته ٧٠ دقيقة، لكن أسلوب هذه الأفلام لا يختلف عن أسلوب “الأعمال الاسترجاعية” السنوية التي تقدمها لنا “الأنباء المصورة”، بشكل روتيني.
تم إحصاء ما يقارب ثمانين استطلاعاً في “الفيلموغرافيا”، حول الرحلات الرسمية لمحمد الخامس والحسن الثاني، وزيارات رؤساء الدول، ومؤتمرات القمة، والمهرجانات في المغرب، والقوات المسلحة الملكية…إلخ.
في العام ١٩٥٦، أنتج العربي بن شقرون أربعة أفلام وثائقية: “الجيش الملكي” عن ولادة القوات المسلحة الملكية واستعراضها الأول؛ “رحلة الوحدة” أو “المغرب واحد”؛ استطلاع عن زيارة محمد الخامس لجنوب وشمال المملكة؛ صور عن الحملة الأولى لمحاربة الأمية؛ “عام على الاستقلال” مدته عشر دقائق، يظهر عودة العائلة الملكية من المنفى؛ والأحداث الوطنية الرئيسية خلال العام الأول للمغرب المستقل. قام الفرنسيان، ج. أرشيمبو J. Archimbaud و ر. شوني R. Chenay، بالتعاون مع العربي بناني، بمونتاج شريط مدته ساعة و١٠ دقائق حول أول حكومة مغربية برئاسة البكاي، وتسليم السلطات، والتجمعات الشعبية في المشور…
منذ تلك اللحظة، لم يتغير عملياً إنتاج الاستطلاعات. أما أرشيفات عهد الحماية القليلة فقد طالها النسيان في قبو استوديوهات السويسي. ثمة محاولة واحدة خجولة فقط، في العام ١٩٥٦، ألا وهي فيلم “صفحة من التاريخ”، من توقيع العربي بناني، والتي لا تتجاوز سبعة عشر دقيقة. يظهر هذا الفيلم بإيجاز صور “المغرب القديم”، ومقاومة الاحتلال الاستعماري؛ ثم بسرعة كبيرة يصل بنا إلى الاستقلال. الغالبية العظمى من الوثائق تشكل عودة محمد الخامس من المنفى ووفاته، واعتلاء الحسن الثاني العرش، وعمله، لاسيما الاستفتاء على الدستور وافتتاح البرلمان المغربي الأول. ينتهي الفيلم بولادة ولي العهد سيدي محمد.
لكن لم تسجل الكاميرا أي نشاط من الأنشطة الثقافية في البلاد، لا مهرجان مسرح الهواة الأول الذي أقيم في العام ١٩٥٧ تحت إشراف وزارة الشبيبة والرياضة، ولا المعرض الجماعي الأول للرسامين المغاربة في رواق باب الرواح، في الرباط في العام ١٩٦٠، ولا معرضين مهمين في العام ١٩٦٩، للرسامين عطا الله، بلكاهية، شبعة، حفيظ، الحميدي، والمليحي في ساحة جامع الفنا بمراكش، ثم في ساحة ١٦ نوفمبر بالدار البيضاء، واللذين كانا محاولتين لإقامة حوارات بين الفنانين والجمهور الذي لا يتردد عادة على أروقة المعارض.
والأكثر خطورة أنه تم حجب بعض الأحداث. إن الاضطرابات التي هزت مجمل الأراضي المغربية في العام ١٩٥٨، ومحاولة انفصال الريف، وانتفاضة ٢٣ مارس ١٩٦٥ في الدار البيضاء، أو الانقلابين العسكريان الفاشلين في عامي ١٩٧١ و1١٩٧٢، تم محوها كليا وببساطة من التاريخ المغربي. وسيتم التعامل بنفس الأسلوب مع مقاومة موحا أوحمو في عام ١٩١٤ وخاصة مع “حرب الريف” (١٩٢١-١٩٢٥) في الصيغة الأولى لـ”الذاكرة ١٤” 16هذه الصيغة، مدتها ١٠٨ دقائق، تعرضت لرقابة شرسة. لذلك، لا تتعدى الصيغة المعروفة حالياً ٢٥ دقيقة.
إن التغيرات التي تمت من خلالها ولادة هذا الفيلم المبني على المونتاج (بالإضافة إلى أرشيفات الأشرطة السينمائية والصور، يحتوي فيلم “الذاكرة ١٤” على العديد من المشاهد التي تم تصويرها في شفشاون ووزان مع الرشيش كمصور سينمائي) تثبت أن مثل هذه التجارب لا تلقى الترحيب من قبل المنظور الذي حدد إنتاج المركز منذ الاستقلال. كما كتبنا أعلاه، من الواضح أن سياسة ما، غير مُعلنة، قررت أن تُصاب الذاكرة المغربية بفقدان الذاكرة، لتُدرك الأحداث – بعضها فقط – إلا ابتداء من العام ١٩٥٦.
في الأصل، كان فيلم “الذاكرة ١٤” يطمح إلى أن يشمل الأربعة وأربعين عامًا من الحماية الفرنسية على المغرب. ومع ذلك، لم يكن ليقتصر على تقديم مدرسي لأحداث التاريخ المعاصر، وإنما كان يطمح إلى “ترجمة” سينمائية لقصيدة طويلة تحمل العنوان نفسه كتبت عام ١٩٦٩. 17القصيدة تحمل أيضا عنوان “الذاكرة 14″، صدرت في أ. البوعناني، “فتحات النوافذ”، منشورات الستوكي، 1980.لذلك كان ضرورياً مشاهدة الأخبار الفرنسية والأفلام الوثائقية الدعائية والأشرطة الصامتة والملونة طيلة شهور، حسب التقنية الجارية آنذاك، حول مدن الرباط ومكناس وسلا وفاس والقنيطرة.18كانت هذه الأشرطة في حالة سيئة لدرجة أنه كان لا بد من إصلاح الصورة تلو الصورة تقريبًا. بسبب الجهل أو اللامبالاة، تُركت مع النفايات. كان من الضروري أيضًا تكبير الصور من أجل إعادة إنشاء التأطيرات المناسبة، وتصوير لقطات مقرّبة لمتقاعدين سابقين شاركوا في حرب الريف، والنساء المسنات بوجوه مؤثرة ومضطربة، وأزقة شفشاون التي تشبه ديكورات المسرح ، إلخ. كانت الفكرة الرئيسية مُعبر عنها في القصيدة التالية:
“لم تبق أي أغنية،
لم يبق أي تاريخ،
لم يعد الدماغ يقوى على شيء.
الأسلاف على حامل الأمتعة،
الأسلاف على بعد سنوات ضوئية من كلماتي،
(…)
هذا
هذا هو الجيل
١٤ يَحْتَكُّ باللعنات”.
قامت مديرية المركز، التي كانت عدم ثقتها بي غير مبررة – حيث كانت تراقب كل مونتاج أنجزته ومنعتني من إخراج فيلم “ستة وإثنى عشر” كما تصورته في البداية – قامت باقتطاع أجزاء هامة من الفيلم بلا رحمة ؛ وخلال مدة تزيد عن شهر، كل صباح، تم عرض المونتاج الأول لِـ “الذاكرة ١٤” (كان مدير المركز في نفس الوقت رئيسًا للجنة الرقابة) وكنت مضطرًا لشرح أبسط العلاقات بين المقاطع. أوقفت عملي للمشاركة في تجربة جديدة ضمن مجموعة “سيݣما ٣”. بعد تصوير ومونتاج “وشمة”، حيث، يا للغرابة، كان علي أن أجيب عن أسئلة الرقابة19طلبت الرقابة قطع صورة العلم المغربي الذي افتتح المشهد الأول من الفيلم. بمبرر أنه يجب، بكل بساطة إعادة تصوير المشهد بعلم جديد ألوانه زاهية أكثر. لم يكن مقبول الحفاظ على مقطع حيث يعبر الأب بالتبني والطفل مسعود الساحة الكبيرة أمام باب المنصور، وبالقرب من العربات الواقفة كان هناك صف من ماسحي الأحذية … في مشهد المُعزيات و”الطُلبة” الذين يرتلون آيات قرآنية في نهاية الجزء الأول، اعتُبرت المقاطع المُكبَّرة للوجوه “قبيحة” ولا تستجيب لمعايير الجمال المغربي (كان من الممكن أن يكون لهذا تأثير سيئ للغاية في الخارج) ؛ اضطررت إلى عكس ترتيب المقاطع دون حذف أي واحد منها، فلم تعد الوجوه قبيحة. أما مشهد اغتصاب المرأة- البومة، فوجدت كل المتاعب لإقناع الإدارة بالإحجام عن منعه دون جدوى. فاحتفظت فقط بالمقاطع المقربة جدًا، واضطررت إلى الحد من حركات أجساد المراهقين ذهابًا وإيابًا على جسد المرأة المعروض قرب الشجرة. كانت مدة “وشمة” في الأصل 120 دقيقة. بعد عرضه في قرطاج، حيث حصل على التانيت البرونزي، اضطررت بالاتفاق مع زملائي الثلاثة في “سيݣما 3″، إلى قطع 15 دقيقة. لكن الموقف الغريب لـ “المخرج” الرسمي للفيلم وضع حدا لتعاون كان من الممكن أن يكون غير مسبوق في تاريخ السينما المغاربية. وكان علي أن أصبر عشر سنوات قبل أن أخرج “السراب” في عام 1980. حول بعض المشاهد، بدلاً من المخرج الرسمي للفيلم، قمت بمونتاج صورة “الكنز المرصود”، أول فيلم روائي طويل من فئة ٣٥ ملم لمحمد عصفور، قبل استئناف فيلم “الذاكرة ١٤”.
كان من الضروري تصحيح الوضع وترجمة نزوات ذاكرة تناست الماضي طواعية (و/أو) بشكل غير إرادي، والاعتماد على الأسطورة أكثر من الاعتماد على التاريخ للتعبير عن الانسجام الزائف أو المتواطئ، الطوباوي أو الحقيقي، للصورة المبتذلة المتجاوزة التي كانت تباع في الأسواق بنفس سعر “الروض العاطر” و”ديوان المجدوب”. ومن أجل التأشير على
هذا المعنى، تمت كتابة جنريك الفيلم بخط بارز على صور مبتذلة.20فقرة مأخوذة من مخطوطة ١٩٨٢ منذ ذلك الحين، لم تعد “الذاكرة ١٤” تاريخًا مغربيًا من عام ١٩١٢ إلى عام ١٩٥٣، ولا إعادة قراءة لتاريخ المستعمَرين من قبل المستعمَرين أنفسهم، كما يمكن معاينة ذلك في “فجر المعذبين” L’aube des damnes للجزائري أحمد راشدي. لهذا السبب، في “الفيلموغرافيا المناهضة للإمبريالية”، يتحدث ݣي هينبيل Guy Hennebelle عن “الذاكرة ١٤” على أنه بناء “معتمد على أرشيفات مصورة مرتبة بطريقة مغلقة للأسف”. من العبث أن نبحث في هذا الفيلم عن أي صورة للنظام الاستعماري في المغرب لأن الأحداث التي يشير إليها ليست مأخوذة بصفتها تلك، كما هي واردة في كتاب مدرسي. لا داعي لأن نعرف أن الروݣي بو حمارة موجود في القفص أو أن ليوطي وصل إلى الدار البيضاء. ينقسم التاريخ الذي يقدمه فيلم “الذاكرة ١٤” إلى سنة الجراد، وسنة السيف والمدفع، وسنة الموسم الفلاحي الجيد… ؛ الرجال والنساء الذين يتذكرون لا يوفرون رؤية دقيقة عن التاريخ، وبعض الصور المجازية للغة السينمائية ليست سوى ترجمات للغة العامية. لذلك كان من الطبيعي الاعتماد على النظريات السوفيتية لمدرسة ١٩٢٥ حول المونتاج. نهاية الفيلم، التي قد تبدو غامضة، لا يمكن فهمها بوضوح إذا نسينا أن “الأيام الخوالي” معروضة أساساً من خلال الذاكرات الشعبية والذكريات والجروح الفردية والأحلام والكوابيس. فيلم “الذاكرة ١٤” هو لوحة، في عدة أجزاء، عن محن الذاكرة الشعبية التي تسعى عبثًا إلى تذَكّر انكسار مؤلم وعنيف، ولا تجد أمامها في نهاية المطاف سوى صمت النسيان والقلق…21جملة مأخوذة من مقدمة التسلسل الزمني لفيلموغرافيا الأفلام القصيرة، المذكورة سابقا. هل الأيادي “المسمرة” على الجدران علامة على القدر؟ لكن ما هو القدر الذي يريدون خداعنا به؟ إطلاق النار يعني بلا شك الموت العنيف؛ والمناظر الطبيعية الضبابية غير الدقيقة تعني أن الذاكرة تتوقف، ولم تعد قادرة على استعادة ماضيها ؛ وحشد من المارة الذين يختفون واحدًا تلو الآخر على إثر الصوت المفجع لطائرة نفاثة (التي تتعارض سرعتها مع بطء المارة – لقطات بحركة بطيئة) ربما يبشر بمستقبل جديد …
“في عمق، في أعماق شراييني،
أغنيتي تركض
على أجسام ممدودة.
أنا واقف بين القبور الحديثة.”
هكذا تنتهي القصيدة. أما الفيلم فيصاحبه حطام القصيدة. ولن يتم أبداً التفكير في إنتاج النسخة العربية.
عمر برادة

عمر برادة كاتب وقيّم يركز عمله على سياسات الترجمة والتواصل بين الأجيال. من مؤلّفاته كتاب Clonal Hum، وهو ديوان شعري عن “الأنواع الغازية” (٢٠٢٠) كما شارك في تحرير كتاب الباب السابع لأحمد بوعناني عن تاريخ السينما المغربيّة، والذي صدرَ بعد وفاته. هو مقيم حاليًا في نيويورك، ويدرّس في كليّة كوبر يونيون حيث يشارك في تنظيم سلسلة محاضرات متخصّصة.
حقوق النشر
صورة الغلاف:
نعيمة سعودي ، اختبار أزياء للفيلم “المنابع الأربعة” عام 1977. بإذن من أرشيف بوعناني.
محمد عبد الرحمن التازي وأحمد بوعناني خلال تصوير الفيلم “طرفاية أو مسيرة شاعر” عام 1966. بإذن من أرشيف بوعناني.
صورة عمر برادة بعدسة ساره ريكس.
التصميم الغرافيكي: سارة حبلي