دراسة أحوال السينما في شمال افريقيا (أسئلة حول “الجماعية” والبنية التحتية)
تنسيق الملف:
سابين أبي صابر
فكرة وتحرير وتقديم الملف:
علي حسين العدوي
مقدمة : نحو تاريخ نقدي للسينيفليا العربية
قبل اندلاع ثورة يناير ٢٠١١ بأقل من شهر (في نهاية ديسمبر ٢٠١٠)، كتب ونشر الصحافي والكاتب عمرو عزت، تحقيقاً نشر على موقع “المصري اليوم” عن “السينيفليا الرقمية” الجديدة. أجرى عمرو مقابلات مع أسماء باتت معروفة في صناعة الأفلام وعالم السينما في القاهرة فيما بعد، على سبيل المثال لا الحصر أحمد أبو الفضل وأحمد عبدالوهاب حسين. من خلال هذا العمل الصحافي، نتعرف الى بدايات جيل وعصر الإتاحة شبه الكاملة للوصول الى الأفلام من شتى بقاع العالم عبر تحميلها من طريق منتديات مختلفة وملفات “تورنت” من شبكة الانترنت، بعد مبادرة الحكومة المصرية للإنترنت فائق السرعة في العام ٢٠٠٤.
حدث هذا بعد إرث عناء وجهاد من مهووسي ومحبي السينما للوصول إلى الأفلام، لأن غالبيتهم ينتمي الى شرائح متنوعة من الطبقة الوسطى وليس لديهم القدرة على دفع الأسعار المرتفعة نسبياً، لاشتراكات الفضائيات الإقليمية والعالمية المتخصصة في بث الأفلام العربية والعالمية. لذا، يتحدد هذا العناء بحدود تكنولوجيا وسائط العرض السينمائي ومدى إتاحتها وسهولة الوصول إليها.
في تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية، لم يكن بوسع محبي السينما من المراهقين وشباب الطبقة الوسطى في القاهرة والاسكندرية الا انتظار برنامج “نادي السينما” أسبوعياً على شاشة التلفزيون المصري لمشاهدة أفلام أجنبية مترجمة متعددة بعض الشيء، لكنها بالتأكيد خاضعة لرقابة إدارة التلفزيون أو الذهاب الى نادي سينما الجيزويت في الاسكندرية أو نادي سينما الجامعة الأميركية (وسط البلد)، أو مشاهدة عروض لشرائط فيلمية في المراكز الثقافية الأجنبية أو التحايل في الحصول على كروت صحافية لمشاهدة أكبر عدد من الأفلام في مهرجانات القاهرة والإسكندرية، أو إستعارة وتأجير أفلام من نوادي الفيديو والتي كانت في غالبيتها تخضع الى ذائقة تجارية رائجة تتمحور حول أفلام الأكشن، إذا كان في بيت العائلة جهاز فيديو أو يتم استعارته من أحد الأقارب أو الجيران، وفي الحالتين ستكون المشاهدة خاضعة لرقابة أسرية.
ومع ظاهرة تصحر قاعات السينما إلا من بعض قاعات صغيرة ربما في قصور الثقافة، لا يمكننا تخيل شكل وحجم معاناة محبي السينما في بلد كبير مثل مصر خارج القاهرة والإسكندرية، أولئك الذين يعيشون في مدن وقرى الدلتا والصعيد وسيناء والصحراء الغربية.
لم تكن مبادرة تكنولوجيا الإنترنت فائق السرعة المدفوعة بتوجه الحكومة المصرية الى دمج البلاد في سوق نيوليبرالية “معولمة”، مقتصرة على إتاحة الأفلام، لكنها كرست بقوة الانترنت كبنية تحتية في المجتمع المصري ومثل وسيط تكنولوجي وعامل أساس ساعد (وأدى) إلى بروز المدونات الرقمية وتحول كبير في الكتابة والصحافة الشعبية والتنظيم المستقل، كما أدى إلى حراكات سياسية واجتماعية احتجاجية من “حركة كفاية” و”شباب من أجل التغيير”، واعتصامات عمالية ومهنية واستعادة المصريين لحقهم في التنظيم في المجالات والمستويات كافة، وصولاً إلى “ثورة يناير” وتأسيس ما يسمى “المجال العام”، مثلما شكلت تكنولوجيا “الكاسيت” في نهاية ستينات القرن الماضي بنية تحتية وعامل حاسم ومساعد بشكل أساس، أدت إلى بروز ظاهرة الشيخ إمام و(أحمد) عدوية وأنشأت تاريخاً من الموسيقى الشعبية من بعد ذلك، إضافة الى فترة بروز الخميني في إيران وخروج دعاة الكاسيت في مصر من الشيخ (عبدالحميد) كشك ووجدي غنيم وعمر عبد الكافي، والحركات السياسية الاجتماعية المصاحبة لتلك الظواهر.
جعلت هذه المبادرة من فعل المشاهدة، بعد العام ٢٠٠٤ في مصر، فعلاً فردياً وحيداً ولكن من دون رقابة مؤسساتية، بعد إرث من الضبط الاجتماعي من خلال الأسرة وإدارات تلفزيون الدولة والكيانات الرسمية والجمعيات الفنية والمراكز الثقافية ونوادي الفيديو والفضائيات وصالات السينما. أصبح التحكم في الوصول للأفلام قائم على مدى القدرة الشرائية ومدى توفر التقنية للحصول على سرعة انترنت جيدة والتي مع الانتشار باتت تغطي نطاقاً أوسع وأسرع، خفّضت من سعر خدمة الإنترنت وسهّلت من عملية تحميل الأفلام. كما أن إتاحة الأفلام على الانترنت أسست ما يمكن أن نطلق عليه “السينيفليا الرقمية” التي جعلت من فعل المشاهدة على الكمبيوترات فعلاً انطوائياً وفعلاً نرجسياً وتنافسياً، تحت شعار “كم فيلماً حمّلت وشاهدت اليوم؟”، الا انها أدت أيضاً الى نشوء بنية تحتية تلقائية وعفوية لتداول الأفلام المتنوعة وترجماتها من خلال شبكات تواصل لمناقشة وتبادل الأفلام وترجماتها على المنتديات حيث ظهرت التوترات بين التوجهات المحافظة والمتحررة لمحبي السينما المترجمين بعيداً من ممارسة الرقابة عبر الحذف، لكن على سبيل المثال ربما يتحفظ السينيفيلي المترجم المحافظ على ترجمة مشهد أو يعلق عليه إذا ما احتوى على عبارات دينية أو على مشاهد جنسية حميمة وجد أنه ليس لائقاً نقلها إلى العربية، ثم تأكدت تلك البنية التحتية في المناقشة والكتابة عن الأفلام في المنتديات أولا ثم المدونات وعلى المقاهي وفي مقاهي الانترنت أو بيع الأفلام عبر أقراص وشرائط على بسطات الجرائد والمجلات، مما أدى إلى بزوغ حركة تنظيم ذاتي عفوية لمشاهدات جماعية للأفلام ومناقشتها من خلال عروض أفلام تنفذ في البيوت أو داخل نوادي سينما أومن خلال قراءة وعروض كتب بالتعاون مع جمعيات فنية ومنتديات ثقافية ومكتبات في عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٠.
وإذ تعود السينما كممارسة ثقافية واجتماعية وركناً أساس في خلق المجال العام يتجلى فيه الفرق والتوتر بين السينيفليا كأيديولوجيا ونظام خطاب تقليدي ومهيمن من جهة، والثقافة السينمائية أو “السينيفليا النقدية” كممارسة نظرية وعملية وأسئلة نقدية ومتجددة من جهة أخرى، بشكل يتجذر في أعوام الثورة بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٣، ويأخذ اتجاهات أكثر انتاجية ومؤسساتية فيما بعد.
يمكننا القول أن السينيفليا التقليدية تأسست كنظام خطاب وايديولوجيا في خمسينات القرن الماضي، تكرّس الفردانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية في عروض نوادي سينما باريس و”السينماتيك” الفرنسية تتمحور حول الفيلم واستهلاكه ويكون فيها الفيلم غطاء يخفي العالم بكل تنوعه وصراعاته وظلمه وعنفه الفادح وثرائه، بحيث تتساوى كل الأنواع الفيلمية والسياقات الاجتماعية المنتجة لها كي يصبح الشريط الفيلمي المتخيل هو واقع العالم وفنتازم يختزل الكون في شاشة وينتصر لإنسان متوهم كي يصبح السينيفيلي مثل جثة حية، “زومبي” واقع تحت أسر سحر السينما، يعيش ويتغذى فقط على ضوء شاشات العرض في قاعات السينما المظلمة ويكتفي بها عن الحياة من حوله.
في ستينات القرن الماضي، في أتون جحيم الاستعمار الفرنسي للجزائر وغيرها والتوزيع غير المتكافئ للصور (غرب يحتكر الصور وجنوب ممنوع منها) وحرب الامبريالية الاميركية في فيتنام ونضالات التحرر الوطني وبدايات تأسيس بنية تحتية سينمائية ثالثة خارج المعايير الغربية عبر جهود قومية وتضامنية أممية ونضال أبناء البشرة السوداء في أميركا ومظاهرات ٦٨ في فرنسا، انهارت جنة الزومبي السينيفيلي وانهار العالم من حوله حيث باتت الكاميرا أداة قتل وتدمير أساسية ليس مجازاً ولكن حرفياً وفعلياً أصبحت وسيلة رئيسة لتحديد الأهداف وتزويد كفاءة الآلة العسكرية وصولاً إلى الحرب الروسية الأوكرانية اليوم التي تقوم بالكامل على آلة عسكرية تعمل عبر كاميرات الدرون. أصبحت الكاميرا تنتج مواداً بصرية نستخلص منها معلومات وأنماط تعمل على تعظيم المهيمن وتبرير الانسحاق أمامه وإبادة تكاوين وأشكال اجتماعية وشعوب وحضارات كاملة.
اهتزت بقوة مكانة السينيفليا التقليدية وانكمش السينيفيلي وحيداً في مقعده بينما ما زالت سحابة الوهم السينمائي الجامعية عالقة فوق رأسه تحتاج الى من يقوم بفكها وإعادة تركيبها وإنتاجها وتوزيعها نقداً وبحثاً ونقاشاً.
هذا يعني أن تجاوز السينيفليا التقليدية لا يحتاج إلى أن يخرج علينا محبي السينما والنقاد ومبرمجي الأفلام في احتجاجات ومقاطعات ويكتفون بدورهم كمواطنين فاعلين ومنحازين سياسياً أو حزبيين أو أن يدبّجوا البيانات والمقالات ضد الأوضاع غير العادلة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ولكن ليخلقوا مجالاً عاماً وتجربة جماعية عبر برمجة الأفلام في الفعاليات السينمائية المتنوعة والكتابة والبحث والنقاش حول اللغة السينمائية للأفلام وجمالياتها ومدى علاقتها بـسياساتها وخياراتها الأخلاقية وبنيتها التحتية من مؤسسات ووسائط وتقنيات وكيف تعكس هذه العلاقات سياقاتها الإنتاجية والاجتماعية وبحث سؤال هل تعمل السينما وهذه الأفلام على تثبيت هيمنة الأنماط البصرية الاستعمارية والسلطوية وهرمية إنتاجها التي جعلت من المؤلف السينمائي سلطة وإلهاً أم أنها تسعى إلى التجريب وتجاوز ونقد تلك الهيمنة؟
هذا التوتر بين السينيفليا التقليدية التي سرعان ما استعادت سلطتها وبين الثقافة السينمائية أو السينيفليا النقدية التي يطمح إلى أن ينتمي إليها هذا الملف، حتى ما بعد هيمنة السينيفليا الرقمية وعصر إتاحة الأفلام وبعد موجات الانتفاضات العربية.
ما زال دجل ايديولوجيا السينيفليا التقليدية قائماً ومهيمناً ومسيطرا على كثير من محبي السينما والنقاد والمبرمجين الفنيين للمهرجانات السينمائية الكبرى في عالمنا العربي، إذ أن السينما التي لا يعنيها إلا التعايش و”الانسان ولو ملوش عنوان” بصرف النظر عن الحروب والكوارث الدائمة واللاعدالة الكوكبية حتى لو هذا الإنسان وهماً متخيلاً. بينما في الفعل، يشاهد هؤلاء السينيفليين والنقاد والمبرمجين الفنيين كل أفلام الدنيا والآخرة وما زالوا مصابين برهاب المثلية ومتواطئين ومبررين لعنف ممنهج ومذابح تقودها أنظمة شمولية ومتعاونين مع شخصيات وكيانات لأنظمة قتل ودول تبيد شعوبها دون أي وعي أو مسؤولية نقدية.
والسؤال الذي يطرح نفسه حالياً: ماذا نصنع بهذه السينيفليا التي نشاهد خلالها أفلام الكون كأفراد وحيدين ومنعزلين أمام شاشات كمبيوتر أو حتى في قاعات مهرجانات دولية بينما لا نزال غير مبالين تجاه الفاشي الصغير الذي ينمو في داخلنا في ظل العنف البنيوي للسلطويات العربية؟
من هنا تراكم وجاء التفكير وراء هذا الملف كي ينضم الى مسيرة العمل الجماعي والمشاهدة الجماعية للثقافة السينمائية والسينيفليا النقدية في شمال أفريقيا منذ العام ٢٠١٤، إذ يقوم الزومبي من الجحيم ويسعى لفك السحر الذي أعياه في ورشات للنقد السينمائي وبرامج عروض أفلام ومعارض وفعاليات ومهرجانات فنية سينمائية ونوادي سينما في مصر وتونس والجزائر والسودان والمغرب وأبحاث عن تواريخ وأرشيفات نوادي السينما والتجارب الجماعية والمشاهدة الجماعية عبر العمل السابق للمدونة البحثية لشبكة ناس”ملفات”.
يأتي هذا الملف مثل عملية تدشين جديدة للموقع البحثي لشبكة ناس “ملفات”. تم تطوير هذا الملفّ ضمن إطار مشاركة شبكة “ناس” في مشروع “الشاشات المتحدة” وهو مشروع بحثي طويل الأمد يعنى بدراسة السبل المختلفة لتداول الأفلام والفيديو والثقافة السينمائية في جنوب العالم عبر طرح أسئلة التكنولوجيا والرقابة والأرشيفات والتي تعرضنا لها على مدار هذه المقدمة.
يركز الملف على أسئلة البنية التحتية والتجربة الجماعية فيما يخص الثقافة السينمائية في شمال أفريقيا، نبدأ مع تونس وعبر مختارات من ثلاث مقالات تترجم لنا الناقدة والمترجمة هاجر بودن ما تستعرضه الباحثة الفرنسية مورجان كوريو من تاريخ البنية التحتية للثقافة السينمائية من أرشيفات الجامعة التونسية لنوادي السينما وأيام قرطاج السينمائية وأيام درمش وما تحمله من توترات بين ما هو أيديولوجي وسياسي وما هو فني وجمالي، ثم نعرج الى تعليق الباحثة والناقدة انصاف ماشطة على تلك الفترة تمهيداً لشهادتها الشخصية عن تجربة نشرة “سينيكري” في التسعينات والألفينات وكيف كانت الثورة التونسية نقطة تحول أساسية في تصوراتها عن السينيفليا والثقافة السينمائية وعلاقتها بالمجال العام.
من بعدها، ننتقل الى الكاتب حسام هلالي الذي يقدم سرداً نقدياً لمختصر تاريخ المحطات الرئيسية للإنتاج البصري والسينمائي في السودان من بدايات الحداثة وحتى اليوم ليطرح علينا محاولة للإجابة عن السؤال التالي: هل هناك بنية تحتية للسينما والثقافة السينمائية في السودان؟ لننطلق تالياً إلى الجزائر مع الكاتب والشاعر صلاح باديس الذي يستعرض مسحاً سينمائياً للجزائر في الأعوام العشرين الماضية، يبدأ بمحورية التجربة الجماعية لنادي سينما خرجت منه مجموعة متميزة من افلام السينما المعاصرة في الفترة الأخيرة في الجزائر كما يستعرض انقطاعات وانعزالات مبادرات الإنتاج السينمائي والثقافة السينمائية في هذه الفترة.
وصولاً الى نهاية رحلتنا في هذا الملف مع المغرب، حيث يكتب القيّم والكاتب عمر برادة عن أطروحة الفنان والسينمائي المغربي الكبير أحمد بوعناني عن كيفية تحرير الشاشة من الإستعمار ثم ننشر فصلاً من كتاب أحمد بوعناني “الباب السابع” عن تاريخ السينما المغربية، يتحدث فيه بوعناني عن فيلم “الذاكرة ١٤” كنموذج عن تحرير الشاشة من الاستعمار وعن التوترات التي حالت من دون ذلك داخل البنية التحتية السينمائية ذات الصلة ألا وهي المركز السينمائي المغربي.
نأمل أن يكون هذا الملف نقطة انطلاق وبداية نحو إعادة تأريخ نقدي للسينيفليا العربية والثقافة السينمائية الجماعية.
علي حسين العدوي

قيم فني وباحث ومحرر وكاتب وناقد للصور المتحركة والممارسات الفنية والحضرية والتاريخ الثقافي. نظّم عدة معارض وبرامج عروض أفلام وندوات مثل “صور العمل – مشروع مستمر من ٢٠١٩” و«سيرج دانيه … تحية و استعادة» (٢٠١٧) و«هارون فاروقي: جدل الصور… عن الصور التى تكشف/تحجب صوراً أخرى» (٢٠١٨). نظم أيضا بالتعاون مع بول كاتا، مشروع «فن التوهان في المدن: برشلونة والإسكندرية» (٢٠١٧) والحلقة الدراسية “بنيامين والمدينة” (٢٠١٥) وهو أحد مؤسسي مجلة «ترايبود» الالكترونية لنقد الأفلام والصور المتحركة (٢٠١٥ – ٢٠١٧) وكان أحد محرري منصة «ترى البحر» الالكترونية والمطبوعة للممارسات الفنية والحضرية في الإسكندرية (٢٠١٥ – ٢٠١٨).
حقوق النشر
صورة الغلاف:
ملصق مهرجان أيام قرطاج السينمائية 2015
طارق تقيا
الطاهر شريعة – تحت ظلال الباوباب
حبيبة دجاهنين – موقع ويكيبيديا
التصميم الغرافيكي: سارة حبلي