عن سينما سودانية لم تحدث بعد!

بقلم حسام هلالي

كما تم تأريخ عرض الأخوين، أوغست ولويس لوميير، في باريس في العام ١٨٩٥ بوصفه ميلاداً للفن السابع، يرتبط دخول السينما إلى السودان باحتفال مد خطوط السكك الحديدية لمدينة الأُبَيِّض في ٢٧ من فبراير في العام ١٩١٢. إذ عُرض شريط صامت، يظهر وصول الملك جورج الخامس الى ميناء “بورت سودان” في العام نفسه، وهو ما يتضمن رمزيتين، الأولى: ارتباط السينما بالاستعمار وتمظهرات الحداثة الناشئة معه، والثانية: الإرتهان للشرائط الإخبارية والأفلام التسجيلية بوصفها الحصة الغالبة من الإنتاج السينمائي في البلاد.

ورغم انتماء السودان إلى شرق أفريقيا جغرافياً وإلى العالم العربي ثقافياً، إلا أنه يتماثل في واقعه مع دول الصحراء الكبرى (تشاد، النيجر، مالي، موريتانيا) التي لا تمتلك أي أرضية راسخة لصناعة سينمائية، على الرغم من بعض التجارب الفردية المميزة، إذ تأخر انتشار مظاهر الحداثة الى منتصف القرن العشرين، معاكسة ما حدث في دول شمال أفريقيا والمستعمرات الاستيطانية في جنوب القارة التي بدأت ملامح الحداثة تظهر فيها منذ القرن التاسع عشر. يضاف إلى ذلك انعدام الاستقرار السياسي ودور المؤسسات العسكرية في الهيمنة على السلطة فترة ما بعد الاستقلال، وما أسفر عن ذلك من سوء الإدارة وغياب عمليات التنمية، وعليه لا يمكن فصل قطاع السينما في بلد مثل السودان عن السلطة حتى بعد الاستقلال، للدور البارز الذي لعبته للعب سواءً في دعمها أو انهيارها ونظراً لغياب سوق إنتاج مستقل قادر على تحويلها إلى صناعة قائمة بذاتها. 

سؤال السينما

يطرح السينمائي ناصر المك سؤالاً جوهرياً هو: هل توجد سينما سودانية؟ ويخلص إلى أن تجربة السينما في البلاد لم تتعد المحاولات، منذ دخول الاختراعات السمع- بصرية من الإذاعة (١٩٤٠) والسينما المتجولة (١٩٤٦) وحتى الإرسال التلفزيوني (١٩٦٣)، فعلى الرغم من الأرشيف الضخم من الشرائط التسجيلية، فإن الأفلام الروائية الطويلة التي أنتجت من خلال مخرجين محليين لم تتعد العشرة، وهو رصيد يصعب معه وجود سينما حقيقية لغياب الإنتاج المستمر والبنية التحتية اللازمة له. والحال أنه بعد تأسيس الإدارة البريطانية لدُور العرض في المدن السودانية المختلفة ظلت العروض محتكرةً فيها للعسكريين والموظفين الأجانب دون السودانيين. ما جعل من السينما ظاهرة نخبوية دفعت البرجوازية الوطنية الى الضغط عبر الصحافة لإتاحة العروض السينمائية للجمهور المحلي. الإتجاه الذي تغير خلال الحرب العالمية الثانية مع استغلال السينما كوسيلة للدعاية السياسية، وتطور مع مؤتمر الخريجين1 لتأسيس “السينمات الوطنية” التي لعبت الجالية القبطية دوراً بارزاً في انتشارها2.

إلا أن هذه المساعي لم توفق في ردم الهوة بين أنماط الإنتاج والعرض المقتصرة على الفيلم التسجيلي حتى بعد ظهور التلفزيون، ومن هنا يمكن الالتفات بسهولة إلى فجوة السينما الروائية المحلية كظاهرة مصاحبة لغياب الصناعة، فمع استثناء تجربة سعيد حامد في السينما المصرية مع نهايات القرن العشرين، لم يزدهر انتاج المخرجين السودانيين من الأفلام الروائية الطويلة التي اتسم أغلبها بمشاكل فنية مربكة، ومع صورة تدعو الى الشفقة منذ المحاولات الأولى لرواد وحدة أفلام السودان في الأربعينات، مع كل من: كمال محمد إبراهيم (بفيلمين قصيرين)، وجاد الله جبارة الذي كان الى جانب شرائطه الوثائقية – أبرزها توثيق حفل الاستقلال – المخرج صاحب الرصيد الأكبر بفيلمين روائيين طويلين فقط. سبقهما بفيلمه القصير “تور الجر في العيادة” الذي استعرض بشكل فكاهي التناقض بين الحياة المدنية الحديثة وإنسان الريف، ما عُد نموذجاً تأسيسياً للدراما (والكوميديا) السودانية. 

وبالنظر إلى ظروف إنتاج أول فيلم روائي طويل نهاية الستينات “آمال وأحلام”، الذي أخرجه المدرس وناظر المدرسة الثانوية في عطبرة إبراهيم ملاسي، ارتبطت فكرة السينما المستقلة ومشاكلها في التوزيع منذ وقت باكر بالأفلام الروائية، فعلى الرغم من وراثة السودان المستقل لوحدة أفلام نشطة، إلا أن تأسيس قسم السينما بمصلحة الثقافة (كوحدة تابعة لإدارة الفولكلور) بجانب مؤسسة الدولة للسينما لم يغير من وضع السينما الروائية التي تركت حصراً للمبادرات الذاتية عند المخرجين. ومع تأميم قطاع السينما، كتقليد لنموذج الاشتراكية الناصرية – بعد انقلاب جعفر نميري في العام ١٩٦٩-  وباستثناء فيلم عرس الزين (١٩٧٧) المقتبس عن رواية الطيب صالح الذي لا يمكن اعتباره فيلماً سودانياً تماماً لكونه من إنتاج وإخراج كويتي (خالد الصديق)، خرجتْ إلى النور تجربتان نادرتان ارتبطتا بالمطرب صلاح بن البادية في ظاهرة تحاكي الأفلام المصرية التي يؤدي بطولتها مطربون معروفون: أولها فيلم تاجوج (١٩٧٧) لجاد الله جبارة، والمقتبس عن قصة حب شعبية من شرق السودان. تلاها المخرج أنور هاشم في رحلة عيون (١٩٨٣) الذي لعب فيه ابن البادية دور البطولة مع المسرحي الكوميدي الفاضل سعيد في دور السَنيّد (رفيق البطل) بمشاركة عربية فريدة من المصرييّن سمية الألفي ومحمود المليجي، والفنان التونسي لطفي بوشناق. إضافة الى الظهور النمطي للمثل صلاح يحيى في دور البواب النوبي. ما جعل الاستعانة بمصر في الإنتاج والتمثيل لا تخلو من ترسيخ الصور النمطية لقاهرة السبعينات كمدينة للمجون في مقابل السودان كأرض بكر غير مكتشفة غنية بالأنماط الفولكلورية الغرائبية. 

وعلى الرغم من فشل السينما التجارية، تجسدت سنوات السبعينيات، مثل حقبة ذهبية للسينما التجريبية وأفلام الطليعة. إذ خرج جيل جديد من الدارسين في أوروبا ومصر أبرزهم الفنان التشكيلي حسين شريف. الذي أسهم في تأسيس قسم السينما بمصلحة الثقافة، فأُنتجت له أفلام قصيرة عدة، أبرزها انتزاع الكهرمان (١٩٧٤) الذي شكل التباساً نقدياً في تصنيفه مع مشاهد أنقاض ميناء سواكن التاريخي المصحوبة بشريط صوتي للفنان المعروف عبد العزيز داؤود وهو يؤدي إنشاداً صوفياً للشاعر ابن الفارض. عززه أداء كوريغرافي صامت لممثلين وممثلات اخترقوا المألوف بظهور جسد نصف عاري لأول مرة في فيلم سوداني. 

وفي موازاة ذلك، احتضنت مصلحة الثقافة ومؤسسة الدولة للسينما أسماءً طموحة للعمل فيها وإنتاج أعمالها أبرزهم الطيب مهدي الذي حقق فيلمه المحطة (١٩٨٩) سبعة جوائز من مهرجانات دولية، وسليمان محمد إبراهيم الذي درس في الاتحاد السوفياتي محققاً لفيلم أفريقيا الطبل والثورة (١٩٧٧) كفيلم مونتاجي استغل فيه ضخامة الأرشيف المتاح مع تعليق صوتي باللغة الروسية، وفيلم “لكن الأرض تدور” (١٩٧٨) الذي وثق فيه تجربة مدارس البدو الرحل في اليمن الجنوبي ليحصل على الجائزة الفضية للأفلام الوثائقية في مهرجان موسكو في العام ١٩٧٩. أما الاسم الأبرز لهذا الجيل فهو بلا منازع المخرج إبراهيم شداد، الذي سار في اتجاه مغاير نحو الفيلم الروائي منذ مشروع تخرجه في ألمانيا الشرقية (سابقاً) حفلة صيد (١٩٦٤) الذي توج بجائزة مهرجان طوكيو لمعاهد وجامعات السينما، مازجاً فيه بين مشاهد مطاردة العبيد في الأفلام الأميركية مع مشاهد تمثيلية في غابة ألمانية، وبعد فيلمه التسجيلي الوحيد جمل (١٩٨١) الحائز على جائزة مهرجان ليل وجائزة السيف الذهبي بمهرجان دمشق للأفلام التسجيلية الذي لم يبتعد فيه عن رمزيات السرد الروائي، عاد الى تحقيق فيلمين روائيين قصيرين هما حبل (١٩٨٥) وإنسان (١٩٩٤) حيث يعد الأخير والمقتبس عن قصة قصيرة نقداً واضحاً لأزمة السودان بعد هيمنة الإسلام السياسي على المجال العام منذ سنوات نميري الأخيرة حتى حدوث انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في العام ١٩٨٩.

ورغم محطاتهم المميزة نُذر هؤلاء السينمائيون بوصفهم الجيل الشاهد على انهيار السينما. إذ تتابع الإهمال المتعمد وتقليص الميزانيات الى حين توقف الإنتاج السينمائي في مئوية السينما العالمية في العام ١٩٩٥، وباستثناء فيلم بَرَكة الشيخ (١٩٩٨) آخر أفلام جاد الله جبارة الذي قدم فيه قصة دجال يدعي أمام القرويين أنه شيخ صوفي وصاحب كرامات (الثيمة المشابهة لفكرة النبوءة في فيلم “ستموت في العشرين” لأمجد أبو العلاء) توقف قطاع السينما عن العمل تماماً الى مطلع الألفية الجديدة.

تيارات جديدة

ساهمت التحولات التي مر بها السودان بعد سقوط نظام عمر البشير في ربط التغيير السياسي الحالي بظهور تيار جديد في السينما. على الرغم من كون ذلك مصادفة سبق العديد من صانعي الأفلام حدوثها قبل اندلاع مظاهرات العان ٢٠١٨، وعلى الرغم من ذلك، احتفت المحافل الدولية بالأفلام الجديدة في ظاهرة تعيد الى الأذهان حقبة أفلام الربيع العربي، وكان التكريم في مهرجان الجونة السينمائي في العام ٢٠١٩ هو ما مثل لحظة فائقة الرمزية بالنسبة للسينما السودانية. إذ مُنح تياران متناحران أكبر جائزتين في المهرجان المصري: أفضل فيلم روائي حصل عليه فيلم “ستموت في العشرين” (الفائز من قبل على أسد المستقبل من مهرجان فينيسيا)، وأفضل فيلم تسجيلي للشريط حديث عن الأشجار (أفضل فيلم تسجيلي في مهرجان برلين). 

انصب اهتمام صهيب قَسَمْ الباري على أزمة السينما كمظهر لانهيار مشروع الدولة الحديثة منذ فيلمه الوثائقي الأول أفلام السودان المنسية (إنتاج الجزيرة ٢٠١٧)، إذ وثق إهمال أرشيف السينما ووفاة موظف الأرشيف الجنوبي بنجامين أدو في حادث مأساوي أصبغ على الفيلم روحاً طاغية من التشاؤم. وفي حين تكررت ثيمة الصداقة والرفاقية في فيلمه الطويل “الحديث عن الأشجار” بسرد لا يخلو من الحساسية والروائية، ركز فيه على علاقة أربعة سينمائيين من جيل السبعينات والثمانينات (إبراهيم شداد، والطيب مهدي، وسليمان إبراهيم، ومنار الحلو). واستعرض ميراث هؤلاء المتميز وجهودهم المدفوعة بشغفهم القديم الذي لا يخلو من النفس النوستالجي منذ تأسيسهم لجماعة الفيلم السوداني في العام ١٩٨٩ (قبل أسابيع من انقلاب عمر البشير)، ورغم إغلاق السلطات للجماعة أعاد هؤلاء السينمائيون/النشطاء تكوينها عام ٢٠٠٥ مستفيدين من هامش الحريات المواكب لاتفاقية السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب. الفترة التي شهدت ازدهاراً نسبياً للمجتمع المدني والثقافة بشكل خاص مع حالة الاستقرار الاقتصادي التي وفرها التوسع في إنتاج النفط الجنوبي.

هدفت جماعة الفيلم السوداني عبر جهود ذاتية وتمويل أوروبي أحياناً لإعادة الاعتبار لثقافة المشاهدة وفكرة نادي السينما، وهي منصة لعروض الأفلام تأسست نهاية الستينيات لتقديم أفلام فنية غير جماهيرية “تدل على الذوق السليم والراقي” حسب تعبير ناصر المك3، وأسهمت تلك الأنشطة – بعد لم شمل الجماعة – في إعادة العروض والاحتفاليات السينمائية كأسبوع الفيلم الأوروبي، إضافة إلى عروض دورية في مقر الجماعة أو خارجه، وهو ما مثل حجراً في بركة راكدة. 

وبينما تمركزت جماعة الفيلم السوداني في أم درمان، العاصمة التاريخية التي عُدت دائماً المركز الثقافي المهيمن فنياً وموسيقياً وإعلامياً – بوصفها مقر استديوهات الإذاعة والتلفزيون والسينما بجانب النشاط المسرحي – انطلقتْ بشكل موازٍ جهود مماثلة على الضفة الأخرى من النيل الأبيض في الخرطوم (العاصمة الكولونيالية والحالية). تمتعتْ بقدر أكبر من الاستقلال عن الميراث الأكاديمي والإنتاجي لجيل الطليعة مع اهتمام أكبر بتأهيل الهواة ومستفيدةً من التطور التقني لفنون الإنتاج البصري. الأمر الذي شكل استقطاباً بين جيل السينما الكيميائية (السيليلويد) وجيل الصورة الرقمية (الفيديو)، في حين نظر جيل السينمائيين الأوائل لظهور التقنيات الحديثة بعين الريبة لسهولة استخدامها من الهواة ممن لم تتوفر لهم فرص التأهيل الأكاديمي المضنية خارج البلاد. انتشرتْ نظرة سلبية لدى كثير من صانعي الأفلام الشباب حول أولئك الرواد باعتبارهم “ديناصورات” عفا عنهم الزمن، أو تجاوزوا ميراثهم بشيء من الاستخفاف والتجاهل في أفضل الأحوال. الحالة التي فاقمها انتشار “الشُللية” في أنماط العمل العام منذ فترات طويلة.

وجاءت أبرز المبادرات الموازية مع تأسيس الناشط الثقافي طلال عفيفي لما أطلق عليه منصة “سودان فيلم فاكتوري” (وهو ممثل لعب دوراً ثانوياً في ستموت في العشرين بجانب مشاركته في الإنتاج) حيث بدأ مشروعه بدعم من معهد غوته الألماني في العام ٢٠٠٩ بهدف تأهيل الهواة في ورشات عمل تحولت بعد العام ٢٠١٣ إلى منصة مستقلة لإنتاج الأفلام. ساهمت في تقديم العشرات من المخرجين الشبان (كشهاب ساتي وإبراهيم سنوبي وصدام صديق وغيرهم) ممن أنتجوا العديد من الأفلام الروائية والتسجيلية القصيرة. الأمر الذي دفع لاحقاً الى إطلاق مهرجان السودان للسينما المستقلة (حيث أسهم فيه المخرج أمجد أبو العلاء مديراً للبرمجة) في استفادة من شبكة العلاقات الإقليمية والدولية لعرض أفلام من خارج السودان وداخله. إلى أن بدأ المهرجان في منح جائزة حسين شريف/الفيل الأسود لأفضل فيلم سوداني منذ دورته الثالثة العام ٢٠١٦.

ومع حالة الاستقطاب الباردة بين جماعة الفيلم السوداني بأم درمان في مقابل سودان فيلم فاكتوري بالخرطوم، ظهرت مبادرات شبابية أخرى أسهم ازدهار القنوات الفضائية الخاصة وكسر هيمنة تلفزيون الدولة في تسهيل وجودها وبروز جيل من الكوادر التي راكمت خبرة في الإنتاج التلفزيوني والرقمي شجعتْ بعضها الى دخول مجال السينما ومن أبرزها مبادرة “سينما شباب” التي حررها الاهتمام بسينما الهواة من التقاليد الأكاديمية والتغاضي عن الجماليات المتواضعة للكثير من الأفلام بهدف الحضور والتواجد على حساب الاحترافية والقيمة الفنية. 

المسار الذي تقاطع كثيراً مع خطاب التنمية البشرية والروح الإيجابية والوطنية خاصة مع تأسيسها لجائزة تهارقا الدولية للسينما والفنون، وهو ما دفعها في إحدى دوراتها لتجاهل الأفلام المحلية تماماً. كما هو الحال مع مهرجان الخرطوم للفيلم العربي الذي اقتصر حصراً على عرض الأفلام واستضافة الممثلين العرب بصورة أقرب ما تكون لحملات العلاقات العامة التي لم تخلُ من الاتهام بقلة الخبرة التنظيمية.

من ناحية أخرى، أدى الاهتمام المتزايد لمنظمات المجتمع المدني بالمحتوى البصري إلى ازدهار الأفلام والفيديوهات التوعوية بصورة تستعيد نشأة السينما كوسيلة إعلامية مع استبدال الحكومة الاستعمارية هنا بالمنظمات الدولية، وهنا تجدر الإشارة إلى تجربة فيلم إيمان (٢٠١٧) للمخرجة ميا بيطار كنموذج فريد، فمع استقطاب بعض طلبة المهجر للانضمام لتنظيم داعش في سوريا، مول برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتعاون حكومي هذا الفيلم ضمن حبكة تتبع خطوطاً درامية مختلفة لا تجمعها سوى ثيمة مكافحة العنف وبرسائل مباشرة ضد الإرهاب، مثلت حالة نادرة من تغير الخطاب السياسي في بلد ظل عالقاً في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما مثل دلالة واضحة على انهيار الأسس الأيديولوجية الإسلامية لنظام البشير في سنواته الأخيرة. 

رغم ذلك استقطب الزخم التدريجي الناشئ بعضاً من مخرجي المهجر لتصوير أفلامهم محلياً. الظاهرة التي زخرت بتنوع أكبر في الخلفيات الثقافية والقدرات الفنية، فالى جانب صهيب قَسَم الباري، الذي أنهى تعليمه في فرنسا، وأمجد أبو العلاء، المتخرج من كلية الإعلام في جامعة الإمارات، مراكماً خبرةً في الإنتاج التلفزيوني، إضافة الى أفلامه القصيرة وحضوره في المهرجانات الإقليمية، ظهرت في الساحة أصوات مختلفة مثل مروة زين، خريجة المعهد العالي للسينما في القاهرة التي قدمت أفلاماً قصيرةً متميزة حاز أولها لعبة (٢٠٠٩) على جائزتي المهرجان القومي للسينما المصرية ومهرجان الإسماعيلية في الفيلم القصير. لتحاول من بعدها إنتاج فيلمها الطويل الأول في جنوب السودان – حيث عملت مراسلة موقتة للتلفزيون المصري خلال استفتاء استقلال الجنوب – وحالت الظروف السياسية لإكمال إنتاجه، قبل أن تنجح وسط صعوبات الملاحقة الأمنية في تصوير فيلمها التسجيلي الطويل أوفسايد الخرطوم(٢٠١٩) ، الذي يتابع من منظور نسوي نضال فريق كرة قدم نسائي في السودان، ومع طغيان سؤال الهوية والعنصرية كقضايا محورية في الثقافة السودانية خرجت أفلام مثل سوداننا الحبيب (٢٠١٢) لتغريد السنهوري (بريطانيا) الذي ركزت فيه على الصراع الطويل بين جنوب السودان وشماله منذ الاستقلال. إضافة إلى حجوج كوكا العائد من الولايات المتحدة بتركيز واضح على توثيق الحرب الأهلية الجديدة في إقليمي جنوب كردفان والنيل الأزرق وبخطاب لا يخلو من النشاط السياسي في الوثائقي الطويل إيقاعات الأنتونوف (٢٠١٤) الحائز على جائزة الجمهور في مهرجان تورنتو من العام ذاته. بجانب فيلمه الروائي الطويل الأول الكشة (٢٠١٨) – يكتب خطأً عكاشة أو أكاشا – مصوراً جانباً من الحياة في مناطق الحرب عبر قصة حب لم تخل من الإشكاليات الفنية والسياسية. 

على جانب مماثل أبدت العديد من التجارب الجديدة قدراً أكبر من الاعتماد على الذات في الإنتاج ومراكمة الخبرة الفنية غير الأكاديمية، ومن أبرزها صانع المحتوى والمخرج أمجد النور، الذي تجاهل بصورة شبه تامة زخم الإنتاج السينمائي مكتفياً بتصوير أفلامه القصيرة ١٢٠ ثانية (٢٠١١) وتزعة (٢٠١٣) لعرضها على موقع يوتيوب ومشاهداته الموثقة تأثراً بموجة المحتوى الرقمي الصاعدة منذ أكثر من عقد في السعودية (حيث نشأ وأقام)، فيما برز محمد كردفاني الذي اعتمد بشكل كامل على دخله الشخصي كمهندس طيران لإنتاج أفلام روائية قصيرة أظهر فيها قدراً متطوراً من الحرفية ندر تواجدها لدى المخرجين الهواة. خاصة في أفلامه الأخيرة نيركوك (٢٠١٦) الحائز على جائزة “شبكة ناس” من مهرجان قرطاج السينمائي، إضافة الى جائزة الفيل الأسود من مهرجان السودان في العام ذاته والذي اهتم فيه أيضاً بقضايا الحرب والنزوح. إضافة إلى سجن الكجر (٢٠١٩) وهو مونودراما فانتازية صورها خلال مظاهرات الثورة محاكياً تحقيقاً لضابط أمن مع معتقل سياسي سرعان ما يكتشف أنه هو نفسه، ولكن بدلاً من مسار المهرجانات المضني آثر كردفاني عرض فيلمه للمعتصمين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة قبل أن يتيحه للعرض على موقع يوتيوب، وهو ما تكرر مع فيلمه التسجيلي الطويل جولة في جمهورية الحب(٢٠٢٠) ، الذي وثق يوميات الاعتصام ذاته متعمداً تجاهل مجزرة فضة الدموية مكتفياً بتصوير حالته الطوباوية، وهو ما سهل من عرضه في تلفزيون السودان خلال مشاركة المدنيين بالحكومة الانتقالية دون أي مشاكل رقابية أو إثارة حساسية الجنرالات المتهمين بفض الاعتصام.

مستقبل معلق

ورغم تلك التجارب المستقلة التي سعت – من دون قصد ربما – لكسر مركزية الإنتاج السينمائي المستمرة حتى التسعينات في السودان، أظهر غياب التنسيق المشترك بين السينمائيين المستقلين تناقضاً واضحاً في بعض المبادرات التي نجحت حيث فشلت أخرى. ففحين الوقت الذي رصد فيلم الحديث عن الأشجار فشل المخرجين الأربعة في إعادة فتح سينما حلفايا المغلقة، نجحت مبادرة “سينما شباب” التي قادها الناشط والإعلامي مصطفى النعيم لفتح السينما ذاتها لتقديم حفل جائزة تهارقا الدولية في العام ٢٠١٦ مستفيداً من العلاقات الشخصية بملاك السينما وبراغماتية التعامل مع الأجهزة الأمنية، وبينما تصاعد الهجوم لاحقاً على المخرج أمجد أبو العلاء لمشاهدة أكثر الأفلام السودانية إثارة للزخم والجوائز الدولية متهمةً إياه بتجاهل عرضه للجمهور السوداني وصنع فيلم لائق للمهرجانات الدولية وحدها. اضطر المخرج لتوجيه الاتهام للقائمين على إدارة آخر قاعات للعرض التجاري في الخرطوم: سينما قاعة الصداقة المدارة من قبل القوات المسلحة، وسينما عفراء مول التي تعود ملكيتها لمستثمر مصري، واللتين رفضتا عرض الفيلم تجارياً إلى أن ضربت لعنة السينما السودانية كافة أنحاء العالم مع تفشي جائحة كورونا، وهنا تكمن المفارقة في عرض سينما عفراء، ما يعد الفيلم الروائي الطويل الأول منذ سنوات وهو “مكان في الروح” (٢٠١٥) لمحمد الطريفي، على الرغم من تواضعه الفني الذي لم يرق لمستوى الإمكانات الإنتاجية والزخم الدولي لفيلم “ستموت في العشرين”. الحالة التي عززت من التشاؤم حول إعادة إحياء السينما السودانية حتى قبل انقلاب الجيش على الحكومة الانتقالية المدنية في أكتوبر من العام ٢٠٢١. 

ومع استمرار حالة الاحتقان السياسي والمعارضة المتواصلة للسلطة دون ملامح انفراج، يصبح الحديث عن أشجار السينما السودانية ضرباً من التفاؤل الساذج الذي أسهم غياب التناغم بين السينمائيين السودانيين في تعميق فشلهم المتكرر لتأسيس تكتل نقابي يساعد على تنسيق جهودهم غير المتعارضة في جوهرها. في المقابل تفشي روح معادية لحرية الفن والتعبير نتيجة لسنوات طويلة من تجريف البنية التحتية الثقافية وهيمنة الأيديولوجيا المحافظة على المجتمع حتى بعد انهيار النظام الإسلامي نفسه، ما يرهن مستقبل السينما في السودان للمبادرات والجهود الفردية بشكل تام كواحدة من سمات البقاء على هوامش العولمة النيوليبرالية.    


حسام هلالي

حسام هلالي كاتب متعدد التخصصات، ومؤلف منشورات ومنتج تلفزيوني من السودان وله ١٨ عامًا من الخبرة في الإعلام والمجال الثقافي. له مجموعة غنية من المقالات والتقارير المنشورة في العديد من الصحف والمجلات الثقافية والمواقع الإلكترونية، ويشارك في تطوير وإنتاج العديد من المسرحيات والمعارض والفعاليات الثقافية والأفلام الوثائقية والعروض التلفزيونية والإعلانات التجارية منذ عام ٢٠٠٣.


المراجع

  1. مؤتمر الخريجين السودانيين هو رابطة للطلبة المتخرجين من المدارس الثانوية وجامعة الخرطوم (كلية جوردن التذكارية وقتها) تأسس عام ١٩٣٨ لجمع نخبة البيروقراطية الوطنية كنواة للحركة الوطنية المناهضة للاستعمار على غرار المؤتمر الوطني الهندي. كان من أبرز قادته زعيم الاستقلال إسماعيل الأزهري، أول رئيس وزراء سوداني.
  2. شهد السودان هجرات متعددة للأقباط الفارين من الاضطهاد في مصر منذ القرن السادس. الحقبة التي شكلت المسيحية الأرثوذكسية فيها هيمنة دينية وسياسية على وادي النيل من أثيوبيا وحتى بلاد النوبة – وسبقت بكثير وصول الحملات التبشيرية (البروتستانتية والكاثوليكية) التي رافقت المستعمر الأوروبي وأدت لاحقاً لانتشار المسيحية في جنوب السودان – حيث ازدهرت في بلاد النوبة ثلاث ممالك مسيحية (نوباتيا، مقرة، علوة) لعب الأقباط دوراً اجتماعياً ودينياً فاعلاً في بلاطها سرعان ما بلغ ذروته مع الاستعمار ودخول المصريين للبيروقراطية المحلية في حقبة محمد علي باشا وسلالته.
  3. ناصر الطيب المك – نشأة وتطور الفيلم التسجيلي في السودان – دار مدارك للطباعة والنشر – الخرطوم – ٢٠١٦

حقوق النشر

صورة الغلاف:
بوستر الفيلم “آمال وأحلام” من إخراج الرشيد مهدي وإنتاج إبراهيم ملاسي”
غلاف كتاب “عرس الزين” للكاتب الطيب صالح
عارض في سينما نيالا بجنوب دارفور (حقوق الصورة ترجع لـ: الجزيرة)

التصميم الغرافيكي: سارة حبلي