عن الحركة السينيفلية في تونس: من جامعة نوادي السينما إلى أيام قرطاج السينمائية

بقلم مورغان كوريو | ترجمة هاجر بودن

يتكوّن هذا النصّ من مقتطفات مشتقّة من ثلاث مقالات للباحثة الفرنسية مورغان كوريو .1 اهتمّت مورغان كوريو بتاريخ الجامعة التونسية لنوادي السينما2 وهي هنا تدرس المنحى الذي أخذته انطلاقا من منتصف الستينات – حيث بدأ الشباب في تونس المستقلّة يفرض نفسه ويغيّر المشهد شيئا فشيئا – ثمّ تتطرّق إلى العلاقة الوطيدة بين نوادي السينما وبين مهرجان أيام قرطاج السينمائية، مُعتمدةً على جزء من أرشيفات الجامعة التونسية لنوادي السينما، وحوارات أجرتها مع ثلّة من قُدماء الحركة، ومجموعة من المراجع تناولت فترةً ارتبط فيها الشغفُ بالسينما بالالتزام السياسي. 

[…]

انطلاقا من منتصف الستينات فتحت نوادي السينما أبوابها عريضةً أمام الشباب من طلّاب وتلاميذ. إثر محاولات الطاهر شريعة3 في الخمسينات4 أخذت مبادرةُ التعريب نَفَسا جديدا، كذلك بدافع الانفتاح على الطبقات الشعبية. كانت سياسة الجامعة التونسية لنوادي السينما هذه مُوازيةً طبعا لسياسة تعريب التعليم في السبعينات التي انْتهَجَها وزير التربية محمد مزالي، لكنّها هنا تستجيب أساسا لمطالب كانت تخترق المجتمع التونسي. إدارة الجامعة التونسية لنوادي السينما هي أوّل إدارة تمّ تعريبُها (1969)، ممّا تسبّب في بعض الإحراج داخل عددٍ من النوادي كان فيها المُدرّسون الفرنسيون المتعاونون أغلبيةً. لكنّ بَوْنا شاسعا كان يفصل أحيانا بين تعليمات الجامعة وممارساتها، إذ أن تقارير الاجتماعات، إلى منتصف السبعينات، وحتّى في صُلب المكتب الجامعي، ظلّت تُكتب بالفرنسية. ولم تخْلُ الحركة التي نشأت من أجل تعريب النقاشات من بعض الحدّة: كان النقاش بعد العرض يتحوّل أحيانا إلى نقاش حول لغة النقاش… في الواقع، حُرّية استعمال الفرنسية ظلّت محفوظة؛ تشهد نوادي باجة وطبرقة وصفاقس، في استطلاعات رأي أرسلتها سنة 1974 إلى المكتب الجامعي، على استعمال اللغتين.

في نفس الفترة أخذت الجامعة مسافتها من الدولة. كانت كتابة الدولة المُكلّفة بالشؤون الثقافية والإعلام هي التي تنظّم أساسا توزيع الأفلام. يذكّر منصف بن مراد، رئيس جامعة نوادي السينما إلى حدود بداية السبعينات: «أوّل شيء قُمنا به هو القطع مع وزارة الثقافة»5. كانت مجلّة شريط سينما تهاجم بشدّة لجنة الرّقابة التي حرمت الشاشات التونسية من أفلام بدت لها احتجاجية أكثر ممّا ينبغي (ليو الأخير6؛ انتهت الحرب7؛ نقطة زابريكي8 …)، أو لا أخلاقية (جميلة النهار9؛ الموت في البندقية10؛ ساتيريكون11…)، أو أفلام تعبّر بصفة عامّة على تفجّر الحريّة لدى الشباب مثل فيلم ليلة يوم شاق12. وللتّحرّر من الضغوط الحكومية حاولت الجامعة أن تكوّن مكتبة أفلام خاصّة بها.

مثال ليلة يوم شاق يذكّرنا أنّ مسألة الهواية، ولا سيما حين تكون لها صلة بالسينما، تبقى من أهمّ نقاط التوتّر بين الأجيال. يحتلّ الفيلم مكانة أساسية في ثقافة المراهقين وقد ظلّوا طويلا يرتادون قاعات السينما خارج نظام رقابة الأولياء وحتّى دون علمهم، وإن اختلف السياق شيئا ما في النوادي التي بَقِيَت للمدرّسين فيها مواقع مرموقة. كان ارتياد نوادي السينما في الستينات والسبعينات يلعب دورا أساسيا في حياة التلاميذ والطلبة الاجتماعية. حتّى أنّ والدة قمر بن دانة كانت ترى في ولع أبنائها بالسينما – المُفرط بالنسبة إليها – ضربا من الجنون أو السُّعار13.

كثيرا ما كان يتمّ الانخراط في الجامعة التونسية لنوادي السينما عند نهاية مرحلة التعليم الثانوي14. كان ارتياد النادي يرادف نوعا من النضج ويجسّد خطوة أولى نحو الاستقلالية والحياة الطلابية، خاصة بالنسبة للبنات اللواتي كُنّ يَريْن في موافقة الأب أمارةَ ثِقةٍ، بينما كان يضطرّ بعضهنّ إلى حضور العروض خِلسةً.

تمكّن الطّلاب من أخذ السلطة داخل جامعة نوادي السينما على المستوى الوطني لكنّ مكانة المدرّسين بقيت أساسية، خاصّة في المدن الداخلية. كان الكثير من الأساتذة يعتبرون تنشيط حصص النادي تكميلا لمهمّتهم كَمُرَبّين، وتُبيّنُ أغلبُ الشهادات أنّ اكتشاف التلميذ لنادي السينما كان يتمّ بإيعاز من أستاذٍ مُلْهِم. بالفعل، لا يمكن فصل شغف التلاميذ بالسينما عن تعطّشهم الكبير إلى المعرفة. في هذا الصّدد لعبت نوادي السينما دورا هامّا، خاصّة أنّ تعميم التعليم كان في أوّله. يُصنّف ميخائيل بشير عيّاري نوادي السينما ضمن «فضاءات التربية القومية»، إلى جانب المعاهد الثانوية والجامعات ودور الشباب والثقافة و نوادي المسرح15. نلاحظ بالفعل الإجلال الكبير الذي يكنّه للمدرّسين والمدرسة، وكذلك لنادي السينما كمكان للتكوين الفكري، مَنْ كان لَهُم حَظُّ مُزاوَلةِ تعليمهم.

ما يتكرّر كذلك في الشهادات هي إمكانية كسر الحواجز بين الأستاذ والتلميذ التي يسمح بها نادي السينما فالانتماء إلى الحركة كان يعطي للشبان نوعا من الهيبة16. التلميذ المُنتخَب بطريقة ديمقراطية والذي يساهم في تنشيط الحصص يتحدّث مع الأساتذة على قدم المساواة: درسٌ أوّل في الديمقراطية لا يُستهان به في بلد يرى فيه الحاكم نفسه أبًا للأُمّة ويندهش أمام “جحود أبنائه”، مُعتبرًا احتجاجاتهم خيانة.

كان الكثير يغادرون نادي السينما عند دخولهم عالم الشغل أو بعد الزواج، ممّا كان يتسبّب في تعاقُبٍ كان يُثير استياء المنشّطين. بالفعل، يتزامن ارتياد نادي السينما مع فترة من الحياة جدّ خصوصية، تلك الفترة غير المتأكّدة الفاصلة بين المراهقة وحياة الشاب الراشد المسؤول.  

سنة 1972، للتشجيع على الانخراط في الجامعة التونسية لنوادي السينما، نشرت مجلة شريط سينما في عددها الأوّل الدعاية التالية: «لمن يودّ أن يتثقّف/ لمن يودّ أن يتسلّى/ لمن يودّ أن يتعرّف على أصدقاء». وفعلا، كان نادي السينما من الأماكن النادرة التي يستطيع فيها الشباب التونسي تمضية أوقات فراغه. وَحْدَهُ الملعب كان بإمكانه مُنافسته، لكن لنادي السينما ميزةٌ يتفوّق بها على الملعب: الاختلاط بين الجنسين… ولو في حدود، فَخِلال اللقاءات الثانية لنوادي السينما العربية والإفريقية التي دارت في قرطاج درمش سنة 1974 لم يتجاوز عدد المشاركات 5٪17. إن كان الكثير يشهد على حضور نسائي داخل حركة نوادي السينما فَإنّ الأرقام تتعارض مع الخطابات التي تصف مُشارَكةً مُتساوية بين الجنسين. باستثناء نادي سينما حمام الأنف18، كان عدد النساء قليلا في صفوف المنشطين الأكثر التزاما والذين هم أوّل المترشّحين للقاءات 1974. صحيح أنّ الفتيات كُنّ يزاولن تعليمهنّ بنسبة أقلّ.

سُرعان ما أصبحت العروض السينمائية مَقْصَد شبابٍ غفير. كانت حصص نادي تونس بِدار الثقافة ابن رشيق في شارع باريس تجلب أعدادا تفوق بكثير عدد مقاعد القاعة: هناك تُحدَّد المواعيد وتُبنى علاقات اجتماعية، حتّى خارج قاعة السينما – على الرصيف أو في المقاهي المجاورة – بالنسبة لمن لم يجد مكانا أو لا يهمّه الفيلم كثيرا. في ذلك طبعا نوع من الاحتلال للفضاء العام كما سنرى لاحقا. لقد أبرز نادي السينما وجها جديدا – وجه المراهق والشاب –، وساهم في استقلالية الشباب كمجموعة اجتماعية تطالب بثقافة خصوصية، وأصبح مكانا استراتيجيّا يتميّز به «زمنُ الأصدقاء».

يجدر بالفعل التأكيد على حيوية الصداقات السينيفيلية. ضمن الجامعة التونسية لنوادي السينما كان يلتقي أبناء بورجوازية العاصمة وأصحاب الشهادات العُليا المنتمين للطبقات المتوسّطة والقادمين أحيانا من المناطق الداخلية، ممّا كوّن لدى الجميع، من خلال السينما، ثقافة مشتركة. هناك صورة تُشكّلُها مُختلف الشهادات: صورة التلميذ النجيب الذي يعيش في مدينة داخلية واكتشف نادي السينما بفضل أحد أساتذته ثمّ استمرّ في نشاطه داخل المكتب الوطني عند ذهابه إلى العاصمة لمواصلة تعليمه. تُبيّن شهادات مثل شهادات عبد الكريم ڤابوس أنّ السينما لعب دورا هامّا في إدماج الطّلاب القادمين من الجنوب التونسي19. وفي بحثه حول الالتزام في تونس المستقلّة، يربط ميخائيل بشير عياري الممارسات النضالية لطلاب شُعَب الآداب والعلوم الإنسانية بـعمليّة «انخراط تدريجي في الوَسَط الجامعي»: «إنّ التسليات الثقافية ذات طابع سياسي (نوادي السينما والمسرح) تندرج ضمن طقوس مفروضة نوعًا ما مِن قِبَل مجموعات تتمتّع بِشَرعيّة فكرية (طلاب متمرّسين وأساتذة)» في وسط «شديد الإيمان بدور المثقّف»20. في نهاية الستينات، بصفته شهادة على الانتماء إلى فئة الطلاب، يفرض نادي السينما نفسه كمكان أساسي في حياة الشباب التونسي الاجتماعية، مكان تُكتسَبُ فيه ثقافةٌ جماعية وسياسية. 

جلبت الحركة بطبيعية الحال جمهورا مُسيَّسا وتقدُّميا. فالسينما – كفُرجة تتميّز بحداثة مُقلقة – ظلّت تشكو طويلا من سُمعةٍ يشوبها نوعٌ من الشّيطنة، مُمارِسةً إغراءَها على طَرَفَيْ الطّيف السياسي. باعتبارها رمزا لثقافة العامّة وفي طليعة حركات التربية الشعبية، كانت السينما تتمتّع بجاذبية قويّة في الأوساط اليسارية. ويمثّل النقاش، كطقس جوهري من طقوس نوادي السينما، نقطة التقاء إضافية مع التقاليد الديمقراطية. كانت نوادي السينما في الصفوف الأولي من المعركة ضدّ الرقابة: غذّت الجامعة بدورها النضال السياسي وأصبحت بؤرة احتجاج.

يبدو فِعلا أنّ نوادي السينما التونسية كانت، في سياق سياسي ما انفكّ يزداد توتّرا، مدرسةَ نضالٍ أكثر منها مكانا لِمُمارسة تحليل الأفلام. باعتراف من قدماء الجامعة، غالبا ما كان الفيلم مجرّد حجّة للنّقاش، والطُّرف في هذا الصدد عديدة. هناك مثال هؤلاء الطلاب في تونس العاصمة الذين كانوا لا يكلّفون أنفسهم عناء مشاهدة الفيلم المُبرمَج: يُحمون أنفسهم في المقهى المجاور أثناء العرض ولا يدخلون القاعة إلّا عند النقاش كي يهاجموا خصومهم على المستوى السياسي. من باب الحديد21 إلى عشرون ألف فرسخ تحت الماء22، كان بوسع أيّ فيلم أن يغذّي جدلا حول الصراع الطبقي أو الإمبريالية الأمريكية أو القضية الفلسطينية. يبدو أنّ الوضع كان شبيها في المغرب رغم اختلاف الفترة الزمنية. بالنسبة لمحمد الطوزي، كان نادي السينما بالفعل «الوسيلة الأرخص والأقلّ خطر لممارسة السياسة»23. لم يكن البُعد الجمالي يهمّ كثيرا، غالبا بسبب غياب تكوين في هذا المجال. يتذكّر المخرج النوري بوزيد (من مواليد 1945) الذي اكتشف السينما بواسطة الجامعة التونسية لنوادي السينما: «لم أكن أعلم، لم أكن حتّى أتخيّل أنّه من الممكن قراءة فيلم وتحليله لقطةً لقطة مشهدا مشهدا. أنا ابن نوادي السينما حيث تعلّمت الكثير، هذا أكيد. لكن، في تلك الأوساط، أثناء النقاشات، كثيرا ما كان الطابع الإيديولوجي والسياسي يطغى على تحليل الأفلام التي كنّا نتحجّج بها ونوظّفها بطريقة عشوائية من أجل القضية. لا أتذكّر أنني سمعت في نادي سينما لويس لوميار في صفاقس مُقارَبةً مُعمَّقة تتناول جَماليّةَ فيلم ما. كُلّما حاول أحدهم ذلك، لا سيما من بين المدرّسين الفرنسيين، لا تُترك له فرصة طرح أفكاره إلى النهاية»24. وبالفعل، كان الأساتذة المتعاونون من بين القلائل المُلِمّين بالمصطلحات الفرنسية الخاصّة بتحليل الصورة.

كان المنشّطون مقتنعين أنّهم وجدوا في السينما الوسيلة المُثلى للتوجّه إلى مُواطنيهم الذين لا زالت تُعَدُّ في صفوفهم نِسبةٌ من الأُمّيين. تتذكّر قمر بن دانة: «كان هناك نوع من الإيمان بأنّ السينما يمكن أن تغيّر العالم»25. للأسف، لا يُصادَف “الشعب” دائما في نوادي السينما، كما يعترف بذلك نجيب عياد26. في ماي 1974، بهدف إبراز أنواع الصعوبات التي تواجهها الفروع، وجّه إليها المكتب الجامعي قائمةً من الأسئلة من بينها أسئلة حول جمهور وقع تقسيمه إلى أربع فئات، تقسيم قد يثير الاستغراب لكنّه يحمل في حدّ ذاته دلالة: “تلاميذ” / “مدرّسين” / “موظّفين” / “أُجَراء”. فئة “التلاميذ” هي الأهمّ بكثير، ولكنّ فئة “الأجراء”، بحكم أنّها تتضمّن الطبقة الشغيلة، هي التي كانت مَحلّ أغلب التطلّعات. لم يتمّ الاحتفاظ إلّا بأجوبة نوادي بنزرت وباجة وطبرقة وصفاقس والڤطار27: في هذه النوادي الخمسة، كان أغلب المنخرطين ينتمون إلى الطبقات المتوسّطة بينما “الأُجَراء” أقليـّة. نلاحظ غياب أيّ إحالة إلى فئة الفلاحين رغم أنّ البلد لا زال فلاحيا بقسط كبير: ينتمي نادي السينما، والسينما عامّة، إلى ثقافة المدينة.

سعت بعض النوادي بانتظام إلى كسب الطبقات الشعبية لكن بلا جدوى. من بين النوادي الأكثر حماسا نذكر نادي حمام الأنف الذي انطلق في تنظيم عروض في مصنع الجير والإسمنت بالجبل المجاور. اختار المنشطون أفلاما مصرية أسهل على جمهور غير ناطق بالفرنسية، مع المحافظة على مبدأ النقاش. لكنّ التجربة لم تتواصل. أمّا في وسط المدينة فقد كان المنصف بن مراد وفريقه يجلبون المتفرّجين من المقاهي. كانوا يَعِدونهم بدخول مجاني: لا يدفع حق التذكرة بعد العرض إلّا من أعجبه الفيلم28. في صفاقس في بداية السبعينات عَمِل المنصف ذويب (من مواليد 1952) على إنشاء نادي سينما للعمّال29.

كان النضال الثقافي مدخلا ممكنا للنضال السياسي: عُضو نادي السينما كان يتعلّم كيف تُطبع وتُلصق المناشير، وتُسيَّر النقاشات، وتُنظَّم الجلسات العامّة والانتخابات إلى غير ذلك. كان العديد من أحبّاء السينما يمارسون نشاطا نقابيا و/أو سياسيا، وكان البعض يستعمل أدوات نادي السينما دون تردّد، مثل ذلك الطالب الذي كان يطبع مناشير سياسية في مقرّات المكتب الجامعي30.

لكنّ الجامعة التونسية لنوادي السينما ظلّت رغم كل شيء متمسّكة باستقلاليتها السياسية. تخلّى نجيب عياد عن مهامه داخل الهياكل النقابية المؤقتة للحركة الطلابية31 كي يتفرّغ لنوادي السينما: «في فترة خاضت فيها الجامعة التونسية لنوادي السينما نقاشا داخليا مُهِمًّا حول مستقبلها، ومختلف التيارات التي تخترقُها، وعلاقاتها المعقدة والعسيرة مع السلطات الرسمية، رأيتُ أنّه من واجبي الاختيار بين مسؤولياتي ضمن الهياكل الطلابية ومسؤولياتي داخل جامعة نوادي السينما. حتّي أنني نُعِتُّ بالانهزامي لأنني قلت خلال اجتماع طلابي: “إنّي أفكّر في ضرورة التفرّغ للنضال الثقافي، أي لحركة نوادي السينما. لذلك، أفكّر في التخلّي عن مسؤولياتي داخل الحركة الطلابية.” بالنسبة للطلاب، كان قراري نوعا من الهروب .32»

تصف القيادات القديمة معركةً مستمرّة أمام رغبات المنخرطين وغَلَيانِهم. كان المكتب الجامعي يتدخّل حين يضع أحد النوادي برمجةً تقتصر على أفلام سوفياتية، أو يحوّل الجذاذات التقنية إلى مناشير سياسية. سلسلة طويلة من المعارك تخلّلتها حلقات عجيبة أحيانا. لكنّ جامعة نوادي السينما بقيت مجالا للكلمة الحرّة. كان هدف الجامعة تحفيز الفكر والروح النقدية وكادت تكون في النصف الثاني من السبعينات آخر فضاء ديمقراطي في البلاد. كان هناك حتّى نادي سينما تابع للتيار الإسلامي في المعهد العالي للمهندسين بالعاصمة. وإثر أيلول الأسود (1978)33، أصبحت نوادي السينما مَقصَد كلّ من لم يجد – من نقابيين ونشطاء متديّنين وغيرهم – مكانا للنقاش34. لكنّ موضوعنا لا يخصّ فترةً من الاضطرابات تجاوزت بكثير نطاق الحياة الطلابية.

كيف نجحت الحركة في الحفاظ على استقلاليتها؟ يقول نجيب عياد: «نجحنا لأنّ جامعة نوادي السينما كانت تعمل وفق نظام ديمقراطي دائم. كان الاحتجاج مُتاحا في أيّ وقت، لم يكن من الضروري انتظار انعقاد جلسة عامّة. كانت هناك ديمقراطية حقيقية»35. تفخر الجامعة التونسية لنوادي السينما بطريقة عملها المثالية. هي مَكَنة من الوزن الثقيل تنظم توزيع الأفلام وعرضها عبر كامل البلاد، نشاط يلتهم الوقت والطاقة كان بعض الطلاب يسخّرون له وقتهم كاملا ويضحّون بامتحاناتهم من أجله دون تردّد. لكن، إن كان نادي السينما ذلك الفضاء الاجتماعي المختلط المُتيح للتعارف وربط الصداقات، لا يجب أن نتوقّف عند هذه الصورة البوهيمية شيئا ما، فَهُواة السينما كانوا شكلانيين بصفة خاصّة، جِدّ متشبّثين بالإجراءات في أدقّ تفاصيلها، وأغلبُ الشهادات تؤكّد على ثِقل المَهامّ الإداريه. هذا الحرص الشديد على احترام القانون كان بمثابة التعديل للوضع السائد في تونس والمتّسم بتهاون متفاقم بالقانون.

رغم اختلافاتهم السياسية اجتمع رواد نوادي السينما حول روح أو ركيزة مشتركة أُطلِق عليها، خلال مؤتمر سوسة سنة 1975، اسم “منصّة ثقافية”؛ أكّدوا على كونهم «تقدّميبن» وعبّروا عن رفضهم، من جهة، «للثقافة التقليدية الرجعية»، ومن جهة أخرى «للثقافة الإمبريالية» التي تُروّجها السينما التجارية.

وبالفعل، كانت حركة نوادي السينما تُدرج نضالها في حركة العالم الثالث ومقاومة الإمبريالية، مُنتقدةً اصطفاف السياسة الخارجية التونسية وراء المعسكر الغربي. في 1974، طَلبتْ الجامعة من أعضائها الراغبين في المشاركة في اللقاءات الثانية لنوادي السينما العربية والإفريقية – التي سوف تنعقد في قرطاج درمش– من ملء استمارات فردية. حَوالَي مئة استمارة محفوظة في أرشيف الجامعة تفتح نافذة صغيرة على تطلُّعات أعضاء نوادي السينما في تونس في بداية السبعينات وذلك من خلال الإجابات على سؤالين: “ما هي المواضيع التي تقترحونها؟” و “ماذا تنتظرون من هذه اللقاءات؟”. تحيل الأجوبة بطبيعية الحال إلى الفضاء العربي الإسلامي، ولكن أيضا إلى إفريقيا والعالم الثالث. كانت الجامعة التونسية لنوادي السينما فِعلًا مُلتزمة بترويج الأفلام العربية والإفريقية، لا سيّما من خلال مهرجان أيام قرطاج السينمائية36: كانت علاقات خاصة تربط بين قادة الحركة وبين سينمائيين من إفريقيا جنوب الصحراء، وتُبرز هذه الاستمارات أهمية التثاقف داخل نوادي السينما على الصعيد المحلّي. إلّا أنّ العالم العربي يبقى المرجع الأساسي. وما يثير الاستغراب هو قلّة الأجوبة التي تتطرّق إلى فلسطين رغم أنّه لم يمُرَّ زمن طويل على حرب أكتوبر 1973 . يظهر الاهتمام بالقضية الفلسطينية من خلال التصويت لتوفيق صالح، السينمائي المصري مُخرج فيلم المخدوعون – عن ثلاثة فلسطينيين – الذي حاز على التانيت الذهبي في دورة أيام قرطاج السينمائية سنة 1972 وحَظي بصدى كبير في تونس. أمّا موضوع الإسلام فقد كان غائبا تماما: تكاد المسألة الدينية تكون غير مطروحة. 

إن أبرزت الأجوبة تطلّعات واقتراحات طغى عليها الطابع السياسي، فإنّها بقيت ضبابية جدّا. كان أعضاء نوادي السينما يريدون أن يتناقشوا حول السينما والسياسة، حول السينما والتخلّف، حول السينما الملتزمة إلخ.، لكنّهم كانوا يخشون التعبير بأكثر دقّة. في النصف الثاني من السبعينات ازداد الخطاب راديكالية. في جويلية 1975 ضبطت المنصّة الثقافية لنوادي السينما – التي تمّ تبنّيها بالإجماع في المؤتمر الثاني للجامعة – خطّا توجيهيا أكّدت فيه أنّها «تناضل من أجل جبهة ثقافية ديمقراطية وطنية». وكلمة “ديمقراطية” تتكرّر في كامل النصّ. إن كانت الحركة ترفُض كلّ تبعية سياسية فهي كانت تندرج بكل وضوح في معركة المعارضة التونسية من أجل الديمقراطية. 

والسلطة لم تُخطئ الفهم. انطلاقا من النصف الثاني من الستينات، أصبحت الجامعة التونسية لنوادي السينما مُستهدَفة وضحية لهجومات عمر شاشية37، والي نابل والقيروان وسوسة الذي كان صاحب نفوذ كبير38. قَصْدَ منع هذا فيلم أو ذاك، أخذت السلطات المحلية من حين لآخر تهدّد الجامعة بالخصم من دَعمِها المالي39. سنة 1968 مُنع نادي تونس العاصمة لِمُدّة طويلة40، وسنة 1973 أغلق نادي صفاقس41. عملت الحكومة على تشويه سمعة الطلاب المناضلين، مُتّهمةً إياهم بالانصياع لإرادة المتعاونين الفرنسيين. كما نشأت نوادي تابعة للحزب الاشتراكي الدستوري (الحزب الحاكم) لمنافسة نوادي الجامعة لكنّها لم تنجح في إضعاف الحركة. وزادت المنصّة الثقافية لسنة 1975 من حدّة التوترات بين هُواة السينما والدولة البورڤيبية. مِرارًا حاول الحزب الاشتراكي الدستوري التسلّل إلى هيئات الجامعة التي تَعَرَّض مُديروها للتخويف عن طريق التتبّع في الشوارع والاستدعاءات إلى مراكز الشرطة. وقد طُلب بكلّ لُطف من نجيب عياد الانخراط في الحزب الواحد لكنّه رفض42.

كانت الجامعة التونسية لنوادي السينما قوّة حقيقية تخشاها السلطة وذلك ما سمح للحركة بالبقاء طيلة السبعينات. ما انفكّ قدماء الجامعة يردّدون عدد أعضاء أسطوري – 60000 عضو –، وهو عدد مهول بالنسبة لتونس ولا سبيل للتحقّق منه من خلال المصادر المُتاحة حاليا. لكنّ قدرة الجمعية على الحشد لا تترك مجالا للشك: «في صفاقس، كنّا نعرض نفس الفيلم في ثلاث قاعات مختلفة في نفس الوقت وبنفس النسخة. كان هناك جمهور هائل: 2000 شخص يبقى من بينهم 600 أو 500 لحضور النقاش. […] في دار الثقافة ابن رشيق (تونس العاصمة)، انطلاقا من ساعة معينة، كانت تبدأ مظاهرة تدوم من ساعتين إلى ثلاث ساعات ونصف. لا تتسع القاعة إلّا لـ 400 شخص، وكان يظلّ واقفا أمامها من 800 إلى 1000 شخص. في ڤابس حيث كانت العلاقات مع الوالي متوتّرة للغاية، كانت ردّة فعل نادي السينما على إغلاقه التعسفي اجتماع أعضاءه كل أسبوع أمام السينما خلال الساعتين أو الثلاث التي كان سيدومها العرض».43

[…]

إنّ الأجوبة على الأسئلة المطروحة في الاستمارة المذكورة أعلاه تعبّر شيئا ما عن روح الجامعة التونسية لنوادي السينما ومشاغلها حول السينما الملتزمة ومقاومة الإمبريالية والانتماء الإفريقي والقومي العربي… لكنّها لا تنمّ على اهتمام كبير بقضية العالم الثالث كما أنّ المرجع الأساسي، أي العالم العربي، لا يندرج بصفة آليّة في رؤية تضمّ القارات الثلاث. ربّما يعكس هذا الغياب النسبي نوعا من الضبابية والتناقض لدى المنشطين بين خطابهم حول العالم الثالث وبين القرابة التي تربطهم بالسينما العربية. ما نلاحظه خاصّة هو عدم هيمنة أيّ موضوع من تلك المواضيع. تتركّز تطلعات المترشحين قبل كل شيء حول الثقافة السينمائية في حدّ ذاتها، فالموضوع يحتلّ 88٪ من الأجوبة تحت عناوين مختلفة: تعميق الثقافة السينمائية، تحسين الإنتاج السينمائي، تكوين منشطين، التبادل والنقاش، وهو موضوع له بُعد سياسي كبير كما رأينا. إذا كان لأغلب المترشّحين تجربة حقيقية داخل نادي سينما، فهم يَبْدون غير مُتأكدين تماما من خبراتهم رغم أنّ الجامعة التونسية لنوادي السينما كانت تنظّم العديد من الدورات التدريبية على النّطاق المحلّي والجهوي والوطني. لكنّ الأجوبة على الأسئلة الموجّهة لمختلف الفروع في ربيع 1974 تعكس ضعفا في المعارف التقنية وأدوات تحليل الأفلام. لم تكن كلّ النوادي تُعِدُّ جُذاذات تقنيّة للأفلام. في نظر العديد كانت تلك النقائص تمثّل عائقا أساسيا يُضرّ بمستوى النقاشات. تعكس الأجوبة نوعا من القلق وتعطّشا إلى التكوين ورغبة في الإتقان: من أولويات المشاركين تطوير ثقافتهم السينمائية وتحسين قدراتهم في مجال تنشيط النقاشات. 

إلى جانب ذلك يعبّر المشاركون بصفة خاصّة على تعطّشهم الكبير إلى التعارف وربط علاقات جديدة. ألم يَعِدْهم المنظّمون بنقاشات محمومة مع شباب قادم من كامل إفريقيا والعالم العربي؟ كانت قد وُجِّهت دعوات إلى أعضاء نوادي سينما من فولتا العليا والجزائر. كما دعت الجامعة ناقدا فرنسيا، غي هانبال (1941- 2003)، الذي عاش في الجزائر العاصمة بين 1965 و1968 وكان مسؤولا عن ركن السينما في جريدة المجاهد تحت اسمه المستعار حليم شرڤي44. حضر غي هانبال أيام قرطاج السينمائية منذ دورتها الأولى ووصفهُ أوليفيي حدوشي بكونه «همزة وصل، داخل كوكبة العالم الثالث، بين الأسلاف […] وبين ممارسات المجموعات اليسارية أو الشيوعية الفرنسية بعد 1968، والسينما النضالية والملتزمة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا والعالم العربي»45. «أرهقته[…] الروح السينيفيلية – القريبة من نظرية “الفن للفنّ” – السائدة في فرنسا في العديد من نوادي السينما» فقَبِل بحماس دعوة الجامعة التونسية لنوادي السينما التي كان «يشاطرها تماما مفهومها لدور السينما» المُتمثّل في النقد الاجتماعي46. بالفعل كان الرجل يُدرج نشاطه كصحفي ضمن نضال سياسي أوسع لصالح دول العالم الثالث الحديثة التكوين. كما تمّت دعوة المخرج من أصل موريتاني ميد هوندو (1936 – 2019) الذي كان حاضرا في لقاءات الجزائر العاصمة. لكن للأسف، في غياب تمويل، لم يتمكّن أيّ من المدعوين من القدوم. حسب تقييم مكتب الجامعة الموسّع المنعقد يوم 14 أفريل 1974، اتّسم تنظيم التظاهرة بالعجلة. هكذا تحوّلت اللقاءات إلى مجرّد دورة تدريبية واحتدّ شعور المشاركين بالخيبة حين اكتشفوا ليس فقط غياب المخرجين، بل كذلك غياب أترابهم من هوّاة السينما العرب والإفريقيين. لم يُضفِ على اللقاءات طابعا دُوليّا سوى ليبيٌّ واحد وبعضُ الجزائريين.

[…]

بعد بدايات متعثّرة، تكوّنت لمهرجان أيام قرطاج السينمائية هويّة مناضلة شرسة مبنية على مناهضة الإمبريالية والدفاع عن قضايا العالم الثالث، موقف لا يخلو من تناقضات في دولة سلطويّة تصطفّ سياستها الخارجية وراء مواقف المعسكر الغربي. سنة 1968، عملت لجنة التحكيم، برئاسة سمبان عصمان، على ترسيخ المهرجان في حركة العالم الثالث وأكّدت على انتمائه إلى السينما المناضلة:

 «ليست أيام قرطاج السينمائية مهرجانا كبقية المهرجانات. إنّها تحمل تصوّرا دقيقا للسينما: السينما أداة يجب أن تخدم النضال المشترك بين شعوب العالم الثالث، هذا الجزء الشاسع من العالم. يجب أن تساعد الشعوب التي دُعيت أخيرا إلى تقرير مصيرها على الوعي بنفسها وبمشاكلها اليوم. هذه آفاق عالية الشروط. على أيام قرطاج السينمائية أن تساعد سينما تتناول الواقع الاجتماعي بعين متبصّرة. عليها أن تقترح حلولا أو على الأقلّ، انطلاقا من هذا الواقع الاجتماعي، أن تُقدّم فِكرًا نقديّا من شأنه أن يؤدّي إلى تلك الحلول.»

وتَكرّرَ النصّ جُزئيا سنة 1972 عند الإعلان عن الجوائز مما يبيّن أهميته بالنسبة للمنظّمين وعلى رأسهم الطاهر شريعة. كانت تونس، ومعها أيّام قرطاج السينمائية، منخرطة في حركة عدم الانحياز. كان شريط الرّوس قادمون47، الذي قُدّم في سهرة الافتتاح سنة 1966، يُمجّد التعايش السلمي. هذا لم يمنع هواة السينما التونسيين من النظر نحو الشرق أكثر منه إلى الغرب. ومن دورة إلى أخرى ازدادت الأمور راديكالية. سنة 1972، دعا المنظمون حركات مقاومة من فلسطين وجنوب إفريقيا والموزمبيق وغينيا بيساو. كما تقاسم التانيت الذهبي شريطان: المخدوعون (فيلم، كما قلنا، شخصياته فلسطينية)48 وفيلم سامبيزانجا الذي يتناول حرب التحرير في أنغولا49. ومنحت لجنة التحكيم شريط معركة من أجل زيمبابوي حرّة للمخرج نيي كواتي أوو “تنويها استثنائيا”. أصبح من الصعب تخيّل فيلم هوليودي في افتتاح المهرجان كما كان الشأن قبل ستّ سنوات. والأفلام الأمريكية المعروضة خارج المسابقة كانت تعالج حصريا قضية السود أو الهجرة البورتوريكية أو كانت لها صلة بالقارة الإفريقية نفسها. 

ليست هذه المواقف السياسية إلّا وجها من وجوه المعركة ضدّ الإمبريالية التي خاضها هُواة السينما التونسيون. كانت السينما كصناعة تحتلّ مكانا جوهريّا في تفكيرهم ونضالهم وكانت علاقتهم متوترة بصفة خاصة مع الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام الذي كان تحت هيمنة شركات الإنتاج الأمريكية العُظمى. كان الاتحاد الدولي يراقب المهرجانات منذ بداياتها، منتبها إلى طُرُق تنظيمها، ساعيا إلى الزيادة من مردوديّتها. ما انفكّت هيمنة الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام تثير الاحتجاج في العالم – كانت مثلا سببا في تأسيس قسم “نصف شهر المخرجين” في كان سنة 1969 – لكنّ قدرته على الإيذاء بقيت عالية. 

في البداية – سنة 1967 – لم يتحصل “المهرجان الدولي لأيّام قرطاج السينمائية” على تأشيرة الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام. لكنّ الموافقة جاءت سنة 1968، رغم أنف أعضاء الجامعة التونسية لنوادي السينما، ممّا عمّق الهوّة بينها وبين الدولة. كان فريدريك غرونيش (1916 – 2003)، ممثّل جمعية الفيلم الأمريكي وصاحب القرار داخل الاتحاد، حاضرا في قرطاج سنتي 1970 و1972. وكان الطاهر شريعة من أوّل المحتجين. في حوار أدلاه سنة 1972، تهجّم بشدّة على الاتحاد50. بالفعل، كانت القيود والعوائق عديدة. كان أعضاء لجنة التحكيم مُجبرون على إسناد جائزة – وقد رفضوا ذلك سنة 511968. لم يكن بوسع المنظّمين انتقاء أفلام لسينمائيين عرب وإفريقيين تمّ إنتاجها في أوروبا لأنّ الأولوية كانت للمنتج على حساب المخرج، الشيء الذي كان يتنافى مع جوهر السينيفيليا في حدّ ذاتها.

وطُرحت المسألة الاقتصادية كذلك في أعلى هرم الدولة. في جانفي 1969، بعد دورة 1968 بقليل، رخّص الطاهر شريعة للشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية (SATPEC) – وهي شركة عمومية تأسّست سنة 1959 بهدف تنمية السينما التونسية – باحتكار استيراد وتوزيع الأفلام52. وفي نصّ قانوني مُوالي، أبدى الطاهر شريعة بوضوح انحيازه إلى النهج الاشتراكي وتأميم جميع الهياكل السينمائية53. من الصعب أن نعرف إذا ما كان قد تبنّى هذا المنحى الراديكالي إثر مغادرته الحكومة أو إذا كانت الفكرة قد بدأت تتخمّر في ذهنه ابتداء من سنة 1969. يبقى أنّ مبادرته الجريئة كانت في أغلب الظنّ سببا في دخوله السجن54. على أرض الواقع، حافظت الشركات الكبرى الفرنسية والأمريكية على نفوذها في مجال التوزيع. كان من العسير على الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية تفعيل القانون فتضاعفت التدابير الاستثنائيّة المُرخَّص لها إلى أن اختفت الشركة سنة 1981 دون أن تجِدَ سياسةُ الاحتكار، على ما يبدو، ترجمةً فعلية في تونس.

اندرج قانون جانفي 1969 في موجة مقاومة ضدّ الهيمنة الأوروبية والأمريكية على شبكات التوزيع في إفريقيا. لا مجال هنا لدراسة تقلُّبات سياسات التأميم عبر كامل القارة، لكن لنا أن نتساءل حول دور المهرجانات في تبنّي بعض الإصلاحات. بالفعل، كانت أيام قرطاج السينمائية أوّل مهرجان يجمع مخرجين إفريقيين ويطرح قضية التوزيع، لذلك كانت للنقاشات المحمومة أهميةً تُضاهي أهمية العروض نفسها. إن اتّهمت لجنة تحكيم سنة 1968 أفلام المسابقة بالرداءة فإنّ الدورة كانت بالنسبة للطاهر شريعة «أحسن دورة لأيام قرطاج السينمائية»55.  وكانت التظاهرات الموالية بمثابة المحطّات أو المراحل (أوّل دورة من المهرجان الإفريقي للسينما في واغادوغو من 1 إلى 15 فيفري 1969، والمهرجان الإفريقي في الجزائر العاصمة من 21 جويلية إلى 1 أوت 1969). في ماي 1969، الجزائر – التي كانت قد أمّمت قاعات العروض سنة 1964 – تبعت تونس ومكّنت الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينمائية من احتكار الاستيراد والتوزيع. في جانفي 1970 وقع تأميم التوزيع في فولتا العليا إثر الدورة الثانية لمهرجان واغادوغو، وسرعان ما تبعتها دول إفريقية أخرى. لقد فرضت المهرجانات نفسها كمنابر وأبواق. سنة 1972، نشرت جمعية السينمائيين التونسيين والجمعية التونسية للسينمائيين الهواة والجامعة التونسية لنوادي السينما بيانا تؤكّد فيه عن مساندتها لسياسة احتكار استيراد الأفلام الأجنبية. هكذا تكوّنت نواة احتجاج أخذت تتعزّز على وقع اللقاءات المتتالية وتؤكّد على التضامن بين المطالب. واستغلّت لجنة التحكيم مكانتها لمحاولة الضغط على السلطات المحلية، كما وجّهت مجلة شريط سينما – التي تجمع بين جامعة السينمائيين الهواة وجامعة نوادي السينما – نقدا لاذعا إلى لجنة الرقابة. وسنة 1972، أدلت لجنة التحكيم بتوصية خاصّة أكّدت فيها على «أنّ الحكومات والسلطات عليها تسهيل توزيع الأفلام سواء في بلدانها أو في العالم». كلام موجّه بصفة خاصة إلى الجزائر التي لم تمنح تأشيرة لشريط الفحّام لمحمد بوعماري56، وإلى تونس التي منعت عرض العتبات الممنوعة لرضا الباهي57. لم تكن “استراتيجية التحرير” تستهدف بقايا الاستعمار فحسب. 

عند تأسيسها سنة 1966، لم تكن أيام قرطاج السينمائية تعبّر على ديناميكية بقدر ما كانت تسعى إلى خلقها. نشأ المهرجان في بلد كادت تنعدم فيه الصناعة السينمائية، ولكنّه يملك، من خلال حركة نوادي السينما، تقاليد سينيفيلية متينة. بالفعل، كان المهرجان يطمح أن يكون شعبيا ويعتبر أنّ الجمهور هو الأساس وقلب الحدث. بعد حوالي خمسين سنة، ها هما ابتسامتا سمبان عصمان والطاهر شريعة تتقاسمان ملصقة الدورة السادسة والعشرين لأيّام قرطاج السينمائية (2015)، وهو خِيارٌ يشهد على المكانة التي لا زالت تحتلّها الدورات الأولى في مخيّلة أحبّاء السينما التونسيين. هل هو تعبير عن رغبة في العودة إلى المنبع الأوّل بعد ثورة 2011؟ سنة 1974، كانت مغادرة الطاهر شريعة قد زرعت خوفا على مستقبل المهرجان وخاصّة على روحه الاحتجاجية58. بتجذّرها في ثقافة نوادي السينما كانت أيّام قرطاج السينمائية فعلا مكانا للمشاهدة والنقاش. هل كانت تونس «مدينة الحرّية والسينما» التي أعلن عنها لويس ماركوريل سنة 1967؟

في خضمّ سنوات 68 الفائرة، فَتحتْ أيام قرطاج السينمائية فضاء تعبير حرّ بينما كان قمع المعارضين يشتدّ. لكنّ تصوّرات رواد المهرجان، في تلك الساعات الكبرى من التضامن الإفريقي، كانت تندرج في نظرة دُوَليّة أكثر منها وطنية. منذ البداية عرّفت أيام قرطاج السينمائية بِذاتها على أنّها تظاهرة عربية وإفريقية ينحدر نضالها من نضالات حركات التحرير. وطرحت، بنجاح متفاوت لكن بعبارات جديدة، مسألة ترويج الأفلام العربية والإفريقية، وهي مسألة أوّلية لا يمكن بِدونها تطوير السينماءات الجديدة وتحرير الشاشات من كلّ أشكال الاستعمار. 


هاجر بودن

هاجر بودن مترجمة من أعضاء فريق تحرير مجلة “سينيكري” للنقد السينمائي حيث كانت تنشر مقالاتها خالل التسعينات. من مؤّسسي جمعية “أرخبيل الصور” (فرنسا) وعضوة في جمعية “مسارب” (تونس) المهتّمتين بنشر الثقافة السينمائية. تقوم بتنشيط ورشات في ميدان قراءة الصورة والتحليل السينمائي.

مورغان كوريو

مورجان كوريو أمينة أرشيف باليوغرافية ودكتورة في التاريخ الأفريقي ومحاضرة في علوم المعلومات والاتصالات بجامعة باريس ٨ وعضوة في مركز دراسات الإعلام والتقنيات والتدويل (CEMTI). حصلت كوريو على منحة من معهد أبحاث المغرب العربي المعاصر في تونس (٢٠٠٦-٢٠٠٩) حيث تخصصت في التاريخ الثقافي للسينما في المغرب العربي خلال فترة الاستعمار. في عام ٢٠١٣، كما وحصلت على تنويه خاص في جائزة أفضل أطروحة عن العالم الإسلامي (IISMM ، EHESS). يركز بحثها أيضًا على تاريخ الإذاعة والراديو خلال الحماية الفرنسية في تونس وعلى العلاقة بين السينما ونضالات العالم الثالث. بصفتها أمينة على المكتبات، كانت مسؤولة عن المجموعات الأيقونية في قسم الفنون المسرحية في المكتبة الوطنية الفرنسية بين عامي ٢٠١٣ و ٢٠١٦.


المراجع

  1. « Cinéphilie et engagement estudiantin en Tunisie durant les années 1968 », Étudiants africains en mouvements. Contribution à une histoire des années 68, éd. Françoise Blum, Pierre Guidi et Ophélie Rillon, Paris, Publications de la Sorbonne, p. 137-151, 2017. 
    (السينيفيلية والالتزام الطلابي في تونس سنوات 1968»، 2017، ص. 137-151».)
    « À quoi rêvent les cinéphiles tunisiens ? “Effervescence citoyenne” au ciné-club dans le mitan des années 1970 », Une histoire sociale et culturelle du politique en Algérie et au Maghreb. Études offertes à Omar Carlier, éd. Morgan Corriou et M’hamed Oualdi,Paris, Éditions de la Sorbonne, p. 171-186, 2018.
    (بماذا يحلم هواة السينما التونسيون؟ “الغليان المواطني” في نادي السينما في منتصف السبعينات»، 2018، 171-186».)
    « Les Journées cinématographiques de Carthage et la “guerre de libération cinématographique” (1966-1972)  », Africultures n° 101-102 : « La circulation des films : Afrique du Nord et Moyen-Orient »p. 294-317, 2016.
    (أيام قرطاج السينمائية و”حرب التحرير السينمائي (1966-1972)”»، 2016، 294-317.»)  
  2. تأسّست الجامعة التونسية لنوادي السينما سنة 1950 بمبادرة من أندري ريمون (1925-2011)، أستاذ تاريخ قادم من فرنسا ومؤسس سنة 1986 لمعهد الدراسات حول العالم العربي والإسلامي. 
  3. الطاهر شريعة (1927-2010): رئيس الجامعة التونسية لنوادي السينما من 1960 إلى 1968، ومدير مصلحة السينما بوزارة الثقافة من 1962 إلى 1969، ومؤسس مهرجان أيام قرطاج السينمائية سنة 1966.
  4. سنة 1954 بادر الطاهر شريعة بإنشاء نوادي سينما للشباب تدور فيها النقاشات باللغة العربية.
  5. حوار مع المنصف بن مراد، تونس العاصمة، 18 جوان 2014.
  6. Leo the last, John Boorman, U.K., 1970.
  7. La guerre est finie, Alain Resnais, France, 1966.
  8. Zabriskie Point, Michelangelo Antonioni, U.S.A. / Italia, 1970.
  9. Belle de jour, Luis Buñuel, France, 1967.
  10. Morte a Venezia, Luciano Visconti, France / Italia, 1971.
  11. Satyricon, Federico Fellini, France / Italia, 1969.
  12. A Hard Day’s Night, Richard Lester, U.K., 1964.
  13. هناك تلاعب بالألفاظ:كلمة “كلاب” (“نادي” بالفرنسية) قريبة من كلمة “كْلَبْ” بمعنى داء السّعار. حوار مع قمر بن دانة، حمام الأنف، 27 أوت 2011.
  14.  Morgan Corriou, Un nouveau loisir en situation coloniale : le cinéma dans la Tunisie du protectorat, thèse dirigée par Omar Carlier, université Paris 7 Paris Diderot, 2011. (مورغان كوريو، هواية جديدة في وضع استعماري: السينما في تونس الحماية، أطروحة دكتوراه تحت إشراف عُمر كارليي، جامعة باريس 7 باريس ديدرو، 2011.)
  15. Michaël Béchir Ayari, S’engager en régime autoritaire. Gauchistes et islamistes dans la Tunisie indépendante, thèse de doctorat dirigée par Michel Camau, IEP Aix-en-Provence, 2009, p.232. 
    (ميخائيل بشير عياري، الالتزام تحت نظام سُلطوي. يساريون وإسلاميون في تونس المستقلة، أطروحة دكتوراه تحت إشراف ميشال كامو، معهد الدراسات السياسية، آكس آن بروفانس، 2009.) 
  16. حوار مع نجيب عياد، أريانة، 12 جوان 2014.
  17.    نساء قادمات من العاصمة وضواحيها ومن صفاقس، أي من مدينتين متسامحتين مع الاختلاط بين الجنسين.
  18. حوار مع المنصف بن مراد، تونس العاصمة، 18 جوان 2014.
  19. حوار مع عبد الكريم ڤابوس، قليبية، 30 أوت 2012.
  20. Michaël Béchir Ayari, S’engager en régime autoritaire. Gauchistes et islamistes dans la Tunisie indépendante, op. cit., p.223-225.
    (ميخائيل بشير عياري، الالتزام تحت نظام سُلطوي. يساريون وإسلاميون في تونس المستقلة، مرجع مذكور أعلاه.)
  21. يوسف شاهين، مصر، 1958.
  22. Twenty thousand Leagues Under The Sea, Richard Fleischer, U.S.A., 1954.
  23.  Irene Bono, « Du ciné-club à la “communication sociale”. Le cas de la province d’El Hajeb (Moyen Atlas marocain) », Maghreb et sciences sociales 2009-2010, 2010, p. 224. 
    (إيرين بونو، «من نادي السينما إلى “التواصل الاجتماعي”. حالة إقليم الحاجب (الأطلس المتوسّط، المغرب الأقصى)»، المغرب الكبير والعلوم الاجتماعية 2009-2010، 2010.)
  24. Hédi Khélil, Le parcours et la trace. Témoignages et documents sur le cinéma tunisien, Tunis, HC éditions, 2002, p. 111-112. (الهادي خليل، المسار والأثر. شهادات ووثائق حول السينما التونسية، تونس، 2002.) 
  25.  حوار مع قمر بن دانة، حمام الأنف،27 أوت 2011.
  26. «جامعة نوادي السينما كانت حركة شباب وطلاب ومدرّسين. لم تكن حركة شعبية.»، الهادي خليل، المسار والأثر…، ص. 417 (بالفرنسية).
  27. أرشيف الجامعة التونسية لنوادي السينما.
  28. حوار مع المنصف بن مراد، تونس العاصمة، 18 جوان 2012.
  29.  Moncef Dhouib, « J’allais au ciné-club pour fréquenter les filles belles et riches », ArteEast Quartely, printemps 2008. (المنصف ذويب في مقال بعنوان «كنت أذهب إلى نادي السينما لمخالطة الفتيات الجميلات والثَرِيّات»، آرتيست كوارتلي، ربيع 2008.) 
  30. حوار مع عبر الكريم ڤابوس، قليبية، 30 أوت 2012.
  31. Mohamed Dhifallah, « Participation et exclusion : étudiants tunisiens et réformes de l’enseignement et de l’université (1958-1986) », Revue d’histoire maghrébine, 39/148, 2012, p. 130. 
    أُنشِأت تلك الهياكل النقابية المؤقّتة للحركة الطلابية سنة 1973 لمواجهة الوضع السائد منذ مؤتمر قربة (1972): محمد ضيف الله، «مشاركة وإقصاء: (الطلاب التونسيون وإصلاحات التعليم والجامعة (1958-1986)»، مجلّة التاريخ المغاربي، 148|39، 2012، ص. 130.)
  32. الهادي خليل، المسار والأثر…، ص. 412-413. (بالفرنسية).
  33. جسّدت احتجاجات جانفي 1978 القطيعة بين الاتحاد العام التونسي للشغل وبين السلطة.
  34. نجيب عياد، في حوار مع الهادي خليل، المسار والأثر…، ص. 417-418. (بالفرنسية).
  35. نفس المرجع، ص. 416.
  36. تأسس مهرجان أيّام قرطاج السينمائية سنة 1966 لا سيما بمبادرة الطاهر شريعة.
  37. عمر شاشية (١٩٢٧-٢٠٠٧) كان مديرا لمصلحة السجون التونسية (١٩٨١-١٩٨٥).
  38. Tahar Cheriaa interrogé par Morgan Corriou dans « Des ciné-clubs aux Journées cinématographiques de Carthage », Maghreb et sciences sociales 2009-2010, 2010, p. 171-172. 
     (حوار مع الطاهر شريعة، مورغان كوريو، «من نوادي السينما إلى أيام قرطاج السينمائية»، المغرب الكبير والعلوم الاجتماعية 2009-2010، 2010.)
  39. حوار مع نجيب عياد، أريانة، 12 جوان 2014.
  40. حوار مع نجيب عياد، أريانة، 12 جوان 2014.  
  41. المنصف ذويب، «كنت أذهب إلى نادي السينما لمخالطة الفتيات الجميلات والثَرِيّات»، مقال مذكور أعلاه. 
  42. الهادي خليل، المسار والأثر…، مذكور أعلاه، ص. 417.
  43. نفس المرجع، ص. 419.
  44. Catherine Simon, Algérie, les années pieds-rouges : des rêves de l’indépendance au désenchantement, 1962-1969, Paris, La Découverte, 2011, p. 250.
    (الجزائر، سنوات الأقدام الحمراء: من أحلام الاستقلال إلى خيبة الأمل، باريس، لا ديكوفارت، 2011.)
  45.  Olivier Hadouchi, Cinéma dans les luttes de libération. Genèses, initiatives pratiques et inventions formelles autour de la Tricontinentale (1966-1975), thèse de doctorat, université Sorbonne Nouvelle – Paris 3, 2012, p.266. 
    (أوليفيي حدوشي، السينما في معارك التحرير. نشآت، مبادرات ملموسة وابتكارات شكلية حول مؤتمر القارات الثلاث (1966-1975)، أطروحة دكتوراه، جامعة الصوربون الجديدة – باريس 3، 2012.)
  46. رسالة من غي هانبال إلى عبد الكريم ڤابوس بتاريخ 19 جانفي 1974 (أرشيف الجامعة التونسية لنوادي السينما).
  47.  The Russians are coming, Norman Jewison, U.S.A., 1966.
  48.  المخدوعون، توفيق صالح، مصر- سوريا، 1972.
  49. سامبيزانجا، سارة مالدورور، أنغولا – جمهورية الكونغو الشعبية – فرنسا، 1972.
  50. «ليس هناك شركة إنتاج إفريقية أو عربية واحدة، أو منتج إفريقي أو عربي واحد ينتمي إلى الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام. […] إذن ليس من مصلحة أيام قرطاج السينمائية بتاتا اتباع قواعد الاتحاد. لا معنى لذلك بالمرّة، إذا اعتبرنا المهرجان في حد ذاته وأردنا احترام قواعده وأهدافه المُعلنَة.»، الطاهر شريعة في حوار مع دُرّة بوزيد، 1972.
  51.  لعدم توفّر شريط واحد يستحقّها في نظرهم.
  52.  القانون عدد 12-69 بتاريخ 24 جانفي 1969 حول احتكار استيراد وتوزيع الأفلام.
  53. شريعة 1978. النصّ القانوني الذي نُشِر سنة 1978 كان قد كُتب سنة 1974.
  54. «كنتُ أنا نفسي ضحية شكاية خطيرة ضدّي، موجّهة مباشرة إلى الرئيس بورڤيبة، بهدف تقديمي على أنّني شيوعيّ منذ زمن طويل. […]: قيل عنّي: “هو الوحيد الذي استطاع أن يصدر قوانين في الرائد الرسمي وفق نواياه وألاعيبه الشيوعية.”… بعبارة أخرى، كنت على ما يبدو الشيوعي الوحيد في العالم وفي تونس الذي بوسعه أن يخادع الجمهورية بأسرها إلى حدّ النفاذ إلى رائدها الرسمي… أمر مضحك، لو لم يبلغ هذا الحد من الخطورة. […] جاءوا وأوقفوني في مكتبي، في القصبة. دام استنطاقي يومين في الوزارة الأولى، عند الأدغم، وفي اليوم الثالث نقلوني مباشرة إلى السجن. منذ ذلك الاتصال الهاتفي ببورڤيبة لم أرَ بيتي ولا أولادي. […] لم يكن الأمر مُحزنا بقدر ما كان سخيفا ومثيرا للعجب… لا بطاقة إيداع ولا قاضي تحقيق. بقيت ستة أشهر وخرجت بنفس الطريقة. جاءوا وأعلموني: “سيّدي، ها هي أمتعتك التي كانت محتجزة في السجن، أنت حرّ.”.» (حوار مع الطاهر شريعة، الزهراء، 31 جويلية 2008.)     
  55. حوار مع الطاهر شريعة، مورغان كوريو، «من نوادي السينما إلى أيام قرطاج السينمائية»، مذكور أعلاه.
  56.  الجزائر، 1972.
  57.  تونس، 1972.
  58. يعبّر غي هانبال عن قلقه في جريدة لاكسيون (العمل باللغة بالفرنسية) في نوفمبر 1974: «أتمنّي أن تبقى الدورات القادمة وفيّة للخطّ الذي حدّده مؤسس المهرجان الطاهر شريعة. ليس من باب التعميم المُشطّ ذكرُ الأسف والقلق الّذَيْن استُقبِل بهما في الخارج خَبرُ انتهاء مهامه كَعُضو في اللجنة المديرة لأيام قرطاج السينمائية».

حقوق النشر

صورة الغلاف:
ملصق مهرجان أيام قرطاج السينمائية 2015

التصميم الغرافيكي: سارة حبلي

%d مدونون معجبون بهذه: