بقلم انصاف ماشطة
لا تعتمد قراءتي لمشهد السينفيليا التونسية على أي عمل ميداني وإنما هي شهادة فاعلة في مجال النقد ونشر الثقافة السينمائية تستند الى بعض المصادر من الماضي (مجلة “نوادي سينما” تحديدًا)، وبالأساس إلى ذكريات شخصية متعلقة بتجربة جماعية في مجال النقد (بعث مجلة “سينيكري”)، وكذلك إلى وصف جزئي لحركية ما بعد الثورة التونسية.
ما يعبر عنه بالسينفيليا، في العموم، هي تجليات الشغف بالسينما في الفضاء العام ومشاركة ذلك الشغف بين مجموعات تعبّر بطريقة أو بأخرى عن انتمائها إلى عالم السينفيليا. ومن بين تلك التجليات إنشاء النوادي والجمعيات مما يجعل السينفيليا من مكونات الشأن العام.
في تونس بلغت تلك التجليات ذروتها في الستينات والسبعينات، بعد أن أسس شيوعيون فرنسيون النواة الأولى لنوادي السينما في أواخر الأربعينات وتأسيس الجامعة التونسية لنوادي السينما (1950) وتونسة النوادي، وكذلك تأسيس الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة بعد الاستقلال (1962). اتسمت فترة الستينات بحركة كبرى وثراء في البرمجة داخل الصالات، وتمثل مجلة “نوادي سينما” التي أسسها الطاهر شريعة خير شاهد على ذلك. إذ أن ثراء البرمجة في القاعات وفي أنشطة النوادي، صاحبته داخل أعمدة المجلة، التي تم إنشاؤها في صلب الجامعة التونسية لنوادي السينما، مقالات وتدوينات مكتوبة للنقاشات التي تم تسجيلها خلال حصص أو موائد مستديرة حول أفلام أو مواضيع معينة. كما تميزت هذه الفترة بأهمية تكوين منشطي نوادي السينما، بالإضافة إلى معلومات عن التدريبات التي نظمتها الجامعة، تضمنت المجلة نصوصاً نظرية وتعليمية حول اللغة السينمائية. واتسمت الفترة أيضا بترابط السينفيليا النابعة من المجتمع بحركة القائمين على المجال السينمائي في الدولة. فالطاهر شريعة، وهو من مؤسسي الجامعة التونسية لنوادي السينما، أصبح مدير مصلحة السينما في كتابة الدولة للشؤون الثقافية في النصف الثاني للستينات من دون أن ينسحب من حركة نوادي السينما. ولعل أهم ميزات المشهد تتمثل في التوق المشترك لدى الفاعلين داخل أجهزة الدولة وخارجها إلى تأسيس ثقافة سينمائية تنتشر في جميع مناطق البلاد، وإنشاء سينما تونسية وجعل تونس ملتقى للسينفيليا العربية والإفريقية. وهو الدافع كذلك لبعث المهرجان الدولي للسينمائيين الهواة بقليبية سنة 1963، ثم مهرجان أيام قرطاج السينمائية سنة 1966.
وتواصلت في السبعينات حركية الستينات وإن اتخذت منحى مختلفاً، إذ أصرت حركة نوادي السينما على قطع العلاقة العضوية التي تربطها بالدولة وامتزجت كذلك السينفيليا بالمقاومة الفكرية والسياسية لنظام الحزب الواحد وسياسة القمع الموجه خاصة ضد الحركات الشبابية والطلابية. وتزامن ذلك مع دخول الطلبة بكثرة في نوادي السينما التي تشكل فيها الوعي السياسي لدى الكثير من الشابات والشبان اللذين/اللاتي التحقوا/التحقن بالنوادي عندما كانوا/كن تلامذة وتلميذات. وهكذا وقع تعويض العلاقة العضوية بين حركة نوادي السينما والدولة التي اتسمت بها فترة الستينات بالرابط بين المقاومة السياسية والسينفيليا. وقد ساهم ذلك فيما بعد، الى جانب تدهور العلاقة بالفضاء العام وبداية إغلاق القاعات، الى تراجع الثقافة السينمائية في الثمانينات وذلك رغم الاستفاقة التي عرفتها السينما التونسية في أواخر الثمانينات.1يستند وصف حركية السبعينات إلى أعمال المؤرخة مورجان كوريو.
بدأتُ بفترة التأسيس والفترات التالية، لأنه يصعب فهم سياق التسعينات من دون إضفاء بعض العمق التاريخي على مشهد السينفيليا. فمن خصائص فترة التسعينات تراجع الشغف بالسينما والمعرفة بها بما في ذلك صلب نوادي السينما التي أصبحت في بعض الأحيان ملجأ لبعض الحركات السياسية المحظورة ومتنفساً في ظل وضع خانق على الصعيد السياسي كما هو الشأن في الثمانينات. وأدى أيضا تراجع الثقافة السينمائية وفقر البرمجة في القاعات وتواصل إغلاقها إلى ضعف ممارسة الكتابة حول السينما. ولعل أهم مؤشر على ذلك تأسيس الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي التي ضمت مجموعة من النقاد ومن المهتمين بالشأن السينمائي. وتمثل جانب من أنشطة الجمعية في تنظيم عروض تتيح التعرف الى الأعمال الكاملة لبعض المخرجين الذين ترتبط أسماؤهم بالسنفيليا مثل فرانسوا تروفو و بازوليني و فاسبيندار ومناقشتها بعد العروض. هذه النوعية من الأفلام مثلاً، لم تكن تبرمج آنذاك في النوادي المنتمية للجامعة التونسية لنوادي السينما. فأصبحت جمعية النهوض بالنقد السينمائي تلعب نوعاً ما الدور الذي تفردت به حركة نوادي السينما في السيتينات والسبعينات. إلا أن نشاط جمعية النقاد اقتصر على تونس العاصمة.
وبرزت في تلك الفترة بصفة موازية نوادي سينما جامعية مستقلة عن حركة نوادي السينما أنشأها الناقد الطاهر الشيخاوي في كلية الآداب بمنوبة وفي المركز الجامعي “حسين بوزيان”، وهو عضو مؤسس للجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي. وقد تزامن ذلك أيضاً مع بداية تدريسه تحليل الأفلام وتاريخ السينما في الجامعة العمومية كمادة اختيارية موجهة لطلبة الآداب. وخارج الجامعة، وتحت راية جمعية النقد السينمائي، بدأ الطاهر الشيخاوي تجربة “سينكري” التي انخرطتُ فيها بعد سنتين من انطلاقها عندما كنت طالبة بكلية الآداب بمنوبة. لم تكن فكرة إنشاء مجلة واضحة في أذهان المنتمين الى النواة الأولى لـ “سينكري”. إذ ابتدأت التجربة بالتفكير الجماعي حول أفلام تعرض عادة في دار الثقافة المغاربية ابن خلدون أو من خلال أشرطة الفيديو في مكتب الجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي الموجود في دار الثقافة أيضاً. ولم تكن تلك النقاشات، التي يتخللها التركيز على المشاهد واللقطات لتعميق التحليل مفتوحة للعموم، وكان الاشتغال الدوري على الأفلام يشبه الورشات المنتظمة. عندما التحقت بالمجموعة كانت مغامرة الكتابة قد ابتدأت، إذ تم إصدار 8 أعداد منها بين عامي 1993 و 1994. ولكن لم تكن الكتابة، في البداية، غاية تلك اللقاءات المكثفة ومن المرجح أن دور الطاهر الشيخاوي كان حاسماً في الانتقال الى مرحلة الكتابة، لا سيما وأن النهوض بالنقد هو الهدف الأساسي للجمعية. إلا أن “سينكري” التي تم تعريفها في البدء على أنها نشرية داخلية للجمعية، كانت في حقيقة الأمر مستقلة عنها، ففي البداية لا أحد منا كان منخرطا في الجمعية ما عدا الطاهر الشيخاوي. وهنا يكمن الفرق بين تجربة “سينكري” و”نوادي سينما”. لا أستطيع الجزم بأن كل من يكتب في “نوادي سينما” في الستينات والسبعينات ينتمي إلى الجامعة التونسية لنوادي السينما ولكن النشرة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالجامعة ويتجلى ذلك من خلال اعتماد الإمضاء المؤسسى للافتتاحية، في حين أن افتتاحيات “سينكري” يمضيها الأفراد. كما أن ما يكتب في “نوادي سينما” يتعلق بالأساس بالأفلام المبرمجة في النوادي وبأنشطة أخرى تنظمها الجامعة، في حين أن علاقة كتابتنا في “سينكري” بالبرمجة، بالنسبة لأنشطة الجمعية التونسية للنقد السينيمائي أو القاعات، اتسمت عموما بالهشاشة.
أما العروض التي نظمتها الجمعية، فكانت بالنسبة لنا فرصة لمشاهدة الأفلام والتفكير فيها فيما بيننا، ثم الكتابة وكذلك الشأن بالنسبة للمهرجانات. لم تكن لدينا أي رغبة في المرافقة أو في التغطية، بل كانت غايتنا الغوص في عوالم نكتشفها ونتوقف عندها بمناسبة العروض المتاحة. وكأن شغفنا بالسينما معزول عما يحيط بنا ويتّسم بنوع من النقاوة السينفيلية التي جعلتنا نعرض عن الفضاء العام.
كنا نذهب إلى قاعات السينما بالطبع ونتابع المهرجانات ونحضر العروض والندوات التي تنظمها جمعية النهوض بالنقد السينمائي في دار الثقافة ابن خلدون، لكننا لا نجرؤ على أخذ الكلمة، ربما لأننا الأصغر سناً في تلك الفضاءات ولم يكن لدينا وعي بالانتماء الى أي تجربة جماعية، على الرغم من أن ما كنا نقوم به، فيما بيننا، في مكتب جمعية النهوض بالنقد السينمائي أسس لتجربة جماعية مختلفة عن السائد في تلك الفترة. لم يكن الجدل حول الأفلام والنقاشات الحادة خلال مهرجان أيام قرطاج السينمائية تعنينا وإنما كنا نرغب في الحديث فيما بيننا حول الأفلام التي نحب والكتابة عنها. وفي ذلك أيضا نوع من المقاومة السلبية لاكتساح البروباغندا للفضاء العام وعنفه المرتبط بقمع نظام بن علي ورداءته ونوع من التعبير السلبي عن اختلاف تجربتنا خلافاً لتجارب أخرى ربطت بين الفعل الثقافي ومقاومة النظام أو جعلت منه غطاء للفعل السياسي في زمن كانت فيه المعارضة السياسية جريمة. وهنا يكمن الفرق بيننا وبين حركة نوادي السينما في الستينات والسبعينات، إذ دأبت الحركة على التموقع في الفضاء العام واكتسحت فضاءات عمومية كدور الثقافة، مما جعل علاقة السينفيليا بالشأن العام وطيدة في تلك الفترة.
أما طريقة كتابتنا عن السينما، فكانت نوعاً ما أدبية. وتنطبق هذه الخاصية على طلبة الآداب الذين كانوا يمثلون الغالبية في المجموعة وبين الآخرين. كنا نتعمق في تحليل الصور تمامًا كما نحلل الجمل والكلمات في مقالاتنا الأدبية ولكن لم نكن نولي أي أهمية، وهنا يكمن ضعف آخر للتجربة، لأنماط الإنتاج ولتقبل الأفلام. وتجسد الفصام أيضاً في علاقتنا بالنشر، الأعداد الأولى كانت عبارة عن نشريات صغيرة الحجم، لا تتجاوز الخمس وعشرين صفحة، أصدرتها جمعية النهوض بالنقد السينمائي وكانت توزع في بعض العروض والندوات. بعد إصدار العدد الثامن، اتصل بنا ناشر وانتقلنا إلى مرحلة أخرى. بعد إعادة نشر الأعداد الثمانية الأولى في شكل مجلد من قبل منشورات “منشورات صحر”، أصبحت الأعداد الموالية أطول وخصص جلها للسينما العربية والافريقية. إذ أدى النشر الى تحديد مجال الكتابة. انتهت فترة “منشورات صحر”، وأخذت سينيكري تبتعد عن نموذج المجلة، إذ اختفت كلمة “عدد” مثلاً في الأعداد الأخيرة وأصبحت تشبه الكتيب الصغير، واعتمدنا بالأساس على منحة صغيرة من المركز الثقافي الفرنسي. في الفترة الأخيرة وبعد انقضاء التجربة مع الناشر، لم نهتم بالتوزيع ولم تكن لدينا أي استراتيجية له وكأننا اختزلنا معنى التجربة في مشاهدة الأفلام معا والكتابة ومناقشة النصوص بصفة جماعية.
ولكن تجربة “سينكري” تبدو مهمة إذا ما اعتبرناها إحدى تعبيرات علاقة السينفيليا بالفضاء العام في ظل نظام قمعي جعلنا ننطوي على أنفسنا وعلى شغفنا. وهي مهمة كذلك كمحاولة للحديث عن الأفلام بعيداً من النقد الانطباعي وعن محاولة إخضاع السينما للإيديولوجيا، أي عوضا عن الأشكال السائدة للعلاقة بالسينما في تونس.
وعلى المستوى الذاتي كانت تجربة في غاية الأهمية بالنسبة لغالبيتنا، إذ أسست صداقات مبنية على رؤية وعلى شغف بالسينما تواصلت الى اليوم وأسس البعض منا مبادرات بعد الثورة سأعود إليها فيما بعد. ففي أحيان كثيرة، تقترن السينفيليا بسردية ذاتية حميمية تشبه سردية الرواية العائلية، وهو ما عبر عنه الكثيرون ممن تحدثوا وكتبوا عن علاقتهم بالسينما أمثال فرانسوا تروفو.
توقفت “سينكري” في العام 2004 لأسباب عدة منها مغادرة البعض منا للبلاد وصعوبة تواصل هذه التجربة المنفصلة نوعاً ما عن واقع الإنتاج والتوزيع في تونس. ولكن تشكلت نواة أخرى للسينيفليا حول قاعة عرض ومشروع يهدف إلى دعم توزيع سينما المؤلف أسسه الموزع الحبيب بلهادي ودعمه كل من الطاهر الشيخاوي والمخرج الجيلاني السعدي وهو مشروع قاعة “سينيما أفريكارت” وأصبح النادي الذي أنشئ بها سنة 2008 وجهة للمولعين بالأفلام ومكانا تعرفنا فيه على جيل جديد من محبيها لا ينتمي إلى حركة نوادي السينما. وفي الأثناء تواصلت أنشطة الجامعة التونسية لنوادي السينما وظهر لدى المشرفين عليها هاجس تكوين منشطي نوادي السينما ودعم ثقافتهم السينمائية ويعد هذا منعطفاً أدى الى الحد شيئاً ما من هيمنة الأيديولوجيا والصراعات السياسية داخل المنظمة. ولكن انخراط الحركة في مقاومة النظام تواصل وتجسد ذلك بمنع إحدى دورات مهرجان “سينما السلام” الذي ينظمه نادي سينما تونس منذ عام 2000 وتواصل تنظيمه بعد الثورة. وفي هذه الفترة ظهرت مبادرات شبابية منها إنشاء نادي للسينما مستقل عن الجامعة التونسية لنوادي السينما في سينما الحمراء في تونس العاصمة، وهي من أقدم قاعات السينما في تونس وكانت تحولت منذ مدة إلى مسرح.
وأطلق على هذا النادي الذي أعاد الى هذا الفضاء هويته الأولى، اسم “سينفيس” 2كانت المجموعة متكوّنة من أمل سعد الله، وأماني ضيف الله، وبلال المكّي، وقيس زايد، وإسماعيل. سينيفيس هو اليوم اسم شركة الاستغلال السينمائي ونادي سينما سينيمدار. نسبة إلى سيرج داني تعبيرا عن رؤية للسينفيليا مختلفة عن نظرة حركة نوادي السينما وقريبة من تصور “سينكري” للسينما وللسينفيليا، غير أن أصدقاءنا في “سينيفيس” اختاروا الحضور في الفضاء العام والتواصل مع الجمهور. وكان أعضاء “سينفيس” وقدماء “سينكري” يلتقون في عروض قاعتي الحمراء و”سينما أفريكارات” حول أفلام قديمة وجديدة لعبت دوراً هاماً في بلورة رؤاها وتقاسموا اهتمامهم بمخرجين جددوا طريقة القص والإخراج في العالم العربي مثل الجيلاني السعدي وفوزي بنسعيدي وغسان سلهب وطارق تقية.
أما على مستوى صناعة الأفلام، فنشأت في العشرية السابقة للثورة التونسية مبادرات إنتاج مستقلة، إذ انتقل الجيلاني السعدي عند إنجاز شريطه الطويل الثاني “عرس الذيب” إلى الإنتاج المستقل. وأسست مجموعة من المخرجين الشبان والتقنيين شركة إنتاج مستقلة تدعى “اكزيت” وأخرجوا في إطارها أفلامهم القصيرة الأولى.
اختيار نمط انتاج مستقل ومغاير رافقه تجديد تمثل في القطع مع السرد الروائي الكلاسيكي والواقعي واتسم بطابع تجريبي غير معهود في السينما التونسية. إن حديثنا عن الجيلاني السعدي ومجموعة “اكزيت” في مقال يتعلق بالسينفيليا يعود لقرب هؤلاء المخرجين من دوائر السينفيليا وبرمجة أفلامهم وتقديمها للجمهور في نادي “سينما أفريكارت” الذي نشطه الطاهر الشيخاوي ومثل نقطة التقاء بين فاعلين من أجيال مختلفة، انتقل جزء منهم إلى مجال صناعة الأفلام، فيما واصل آخرون في مجال البرمجة والوساطة حول الأفلام والنقد.
كان هذا هو المشهد قبل الثورة وقد تغير حتماً من بعدها، وقبل الوقوف على أوجه هذا التغيير المرتبط أساساً بإلغاء التشريعات التي تعيق حرية التجمع والتعبير وبتحرير الفضاء العام، أريد التأكيد على مبدأ المواصلة مع إعادة التشكل بين بعض المبادرات التي نشأت في أواخر التسعينات و سنوات الألفين و مشهد ما بعد الثورة.
بعد عام 2011، أدخل الشباب المولع بالسينما طاقة جديدة على قطاع البرمجة والتوزيع. شركة “هكا”ا للتوزيع، مثلا، تمّ تأسيسها من قِبل أمل سعد الله وقيس زايد ومحمد الفريني بعد الثورة. انطلق ثلاثتهم في تصميم مشروع لاستغلال قاعة استقبلها فضاء “مدار”. إثنان كانا ينتميان إلى مجموعة “سينيفيس”.
اتّبع أعضاء المجموعة مسارات مختلفة : أصبح إسماعيل مُخرِجا، وأمل سعد الله وقيس زايد مُديرَيْ قاعات سينما وموزعين. هذه المسارات تعبّر عن التقاء، في نَفَس واحد، بين الإبداع والتوزيع الذي، وإن كان مضطرّا إلى برمجة أفلام للجمهور العريض، يجازف بعرض أفلام تنتمي إلى سينما المؤلف والأفلام التونسية الجديدة خارج العاصمة.
أما مجموعة “اكزيت”، فقد حافظت على النهج المستقل والتجريبي بعد 2011 الى إنتاج الأفلام الطويلة وقد مكنت الثورة نوعاً ما تلك الأفلام من ولوج المهرجانات الكبرى ومن تتويجات هامة حصل عليها فيلم “بابل” لعلاء الدين سليم ويوسف الشابي وإسماعيل، و”آخر واحد فينا” لعلاء الدين سليم. كما أن التمكين من التمويل العمومي بالنسبة ل “طلامس” لم يكن له أي تأثير على تفرد رؤيا علاء الدين سليم وراديكالية خياراته الفنية. وتأكد أيضا تفرد عوالم الجيلاني السعدي وانتهاجه منحى تجريبيا في سلسلة الأفلام التي أطلق عليها عناوين “بدون 1″، “بدون 2” و”بدون 3″، وكذلك في فيلمه الأخير “عصيان”.
هذه التجارب السينمائية وغيرها قد تساهم في تغذية الممارسة النقدية. فقبل الثورة لم أكتب إلا مقالا واحدا عن السينما التونسية، خصصته لفيلمي الجيلاني السعدي “خرمة” و”عرس الذيب” وكان ذلك عند خروج الفيلم الثاني في القاعات في سنة 2006. أما بعد الثورة، فخصص قدماء “سينكري” (الطاهر الشيخاوي وهاجر بودن وكاتبة هذه السطور) مقالات عدة للسينما التونسية ونشرت هذه المقالات على موقع “أرخبيل الصور” التابع لجمعية تحمل نفس الاسم أنشأها الطاهر الشيخاوي في فرنسا ونظمت فعاليات في تونس وفي مصر أيضا. في غياب اقتراحات فنية هامة ورؤى جديدة تعبر عن واقع مهتز ومتجدد، يبقى النقد مفصوماً عن محيطه.
ما يغذي النقد هو واقع الإنتاج وأهمية الأفلام التي تعبر بلغتها السينمائية ومقاربتها الجمالية عن قراءتها للواقع، مما يجعل القراءات النقدية أثرى من الناحية الفكرية ومما يجعلها ترافق الأفلام وترصد المتغيرات في الأعمال السينمائية وفي الواقع أيضا. ما حصل في تجربة “سينكري” عكس ذلك، على الرغم من أن نقطة انطلاق التجربة كانت ورشة حول “ريح السد” للنوري بوزيد، إلا أن عدد المقالات التي كتبت عن السينما التونسية في “سينكري” قليل وقليل جداً، ويمكن تفسير ذلك بضعف الاقتراحات الفنية في تلك الفترة. بالإضافة الى المخرجين الذين ذكرتهم والذين تعرفنا إليهم قبل الثورة ورافقنا أفلامهم بعد الثورة، التقينا بمخرجات اهتممنا بأفلامهن واشتغلنا معهن في إطار ورشات صناعة الصورة، كانتصار بلعيد، وهي كذلك فنانة بصرية، ويسر قاسمي التي أخرجت مع ماورو مازوكي فيلماً شديد التفرد تحت عنوان “لانتز” يدوم ست ساعات وهو اقتباس عن نص الكاتب الألماني بوشنار، التفرد هنا يكمن في اختلاف الفيلم-التجربة عن كل ما شاهدناه في السياقين التونسي والأوروبي كذلك. كان اختيارنا للمخرجتين لتأطير ورشات صناعة الأفلام للشباب والأطفال التي نظمتها جمعية مسارب نابعاً من اهتمامنا بتعبيرات تجريبية ومن قدرة المخرجتين على الاشتغال مع الآخرين، حتى ولو كانوا أطفالا، على هواجسهن الفنية.
أما تغيرات مشهد السينفيليا ما بعد الثورة، فهي متنوعة، ولعل أهمها إنشاء جمعيات جديدة تعنى بنشر الثقافة السينمائية وذلك في مناطق مختلفة من البلاد وإيجاد تقاطعات بين السينما والفنون البصرية وفنون أخرى في مشاريع ثقافية عدة. واصلت الجامعة التونسية لنوادي السينما نشاطها بعد الثورة، وبفضل تحرُّرُ الحقل السياسي قلّت حدّة الوازع النضالي والإيديولوجي وعاد التركيز، عبر بعض المشاريع، على تكوين مُنشطي نوادي السينما، إضافة الى تأهيل المنتمين إلى الجامعة لتنظيم مهرجانات خارج العاصمة. ولكن نظرا لتعدد المبادرات والجمعيات، لم يعد للجامعة دور ريادي كما كان الشأن في الستينات والسبعينات.
إذ تمّ إطلاق مبادرات محلية وتأسيس جمعيات أقلّ خضوعا للمنطق المؤسساتي مثل “جمعية الفنون بالِمكناسي” التي تمتدّ نشاطاتها إلى الأرياف المجاورة وتنظّم مهرجانا بعنوان “سينريف“، وتشتغل على بناء فضاءات بديلة لعرض الأفلام تنصهر في المحيط الريفي. بعض الجمعيات، مثل جمعية “مسارب”، انبنت على قرابات فكرية وصداقات قديمة تعود إلى فترة “سينكري”، ثمّ أخذت تغذّيها مساهمات أعضائها الشابّة وتبادلات على المستوى الداخلي سمح تراكمُها، مع الثورة، بانبساط خارجي من خلال تظاهرات صغيرة وورشات مُنظَّمة بروح تشاركية راغبة في اكتشاف اهتمامات الشباب في مناطق مختلفة.
ما قدمته الثورة لقدماء “سينكري” هو المصالحة مع الفضاء العام والالتقاء مع جيل جديد له علاقة مختلفة مع السينما. فشابات الجمعية، وإن كان للبعض منهن تجارب في البرمجة، أقرب لصناعة الأفلام منهن للنقد. وأضفت الثورة كذلك بعداً اجتماعياً على هاجس نقل الشغف بالسينما إلى أطفال وشباب الجهات والأحياء الفقيرة. وأصبحت السينفيليا لدينا تنتمي للشأن العام، نعي أن ما نقوم به هو أيضاً فعل اجتماعي وسياسي. ونحن في الحقيقة لا نتفرد بذلك في تونس، إذ نتقاسم هذه النظرة مع عدة جمعيات ثقافية كجمعية “الشارع فن” وغيرها. وبالنسبة للفاعلين الجدد في الحقل الثقافي، امّحت تلك الحدود التقليدية الفاصلة بين نشر الثقافة السينمائية وصناعة الأفلام كما كان الشأن منذ تأسيس الجمعيتين الكبيرتين، الجامعة التونسية لنوادي السينما والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة. كان لِتعميم الوسائل والأدوات دور كبير في ذلك، وما أصبح يهمّ أكثر هو الوصل بين الميدانين والأخذ بعين الاعتبار الرغبة في صناعة الصورة التي نلاحظها حتّى لدى الأطفال.3 الفقرة حول الجمعيات الناشطة في الحقل السينمائي لا تشملها كلّها طبعا. توقّفنا على ٤ أمثلة تنتمي إلى ٣ أنواع (جامعة نوادي سينما، وجمعيات محلية، وجمعيات متمركزة في تونس العاصمة وتنظم نشاطات في مناطق أخرى مثل وادي الليل وغيرها).
إن كانت مظاهر تغير المشهد بعد 2011 أكثر بروزًا، فَذلك يعود الى أن الجزء الخفيّ من المسار السابق للثورة لم يقع توضيحه بما فيه الكفاية من قبل المتابعين للشأن الثقافي والفاعلين أنفسهم، وهو ما حاولت أن أفعله في هذا المقال، الذي يتسم بذاتية الفاعلة الثقافية والشاهدة، من خلال سردية تسلط الأضواء على فترة كنا فيها نوعًا ما غير مرئيين. وأرجو أن تتواتر شهادات الفاعلين قبل الثورة وبعدها، في تونس وغيرها من بلدان العالم العربي، لتكتمل المشاهد وتتنوع كي يتمكن المؤرخون من كتابة تاريخ السينفيليا العربية.
انصاف ماشطة
انصاف ماشطة أستاذة في الأدب الفرنسي والسينما بجامعة تونس. وهي رئيسة جمعية مسارب منذ سنة ٢٠١٧.كانت عضوا في فريق تحرير مجلة “سينيكري” حيث نشرت أولى مقالاتها النقدية من ١٩٩٤ الى ٢٠٠٤. نشرت في ما بعد مقالت في مواقع نشاز ونواة وأرخبيل الصور. تعمل في اطار جمعية مسارب على صياغة وتطوير مشاريع تتعلق بنشر الثقافة السينمائية وعلى تنظيم فعاليات وورشات في قراءة الصورة وصناعتها موجهة الى ثلاث فئات عمرية : الأطفال، المراهقون/ات والشبان.
نسخ مجلة سينيكري
حقوق النشر
صورة الغلاف:
النسخات الثالثة والثامنة والحادية عشر من مجلة سينيكري (من قبل أنصاف ماشطة)
نسخ مجلات سينيكري مقدمة من قبل أنصاف ماشطة
التصميم الغرافيكي: سارة حبلي
الهوامش