الجزائر: مسح سينمائي للعزلة (٢٠٠٠-٢٠٢٢)

بقلم صلاح باديس

يحاول هذا النص أن يجمع ملاحظات حول السينما وصنّاعها في الجزائر، جاءت أغلبها من نقاشات ومتابعات لحال هذا الميدان في آخر 20 سنة، ومن الإطلاع على أرشيفات أتاحتها مبادرات وفنانين عملوا في وعلى هذا المجال.

وليست هذه الملاحظات-الشذرات، ربما، سوى تمثيلًا بصريًا لحال السينما المتشظي هنا، سواء من جهة التكوين والمبادرة أم من جهة الصناعة نفسها والتمويل وظروف الإنتاج وأخيرا من جهة التوزيع والعرض واستمرار حياة المُنتَج. حيث تجعلني مراقبة المشهد كله -وهذا لا يخص السينما وحدها بل يمتد لميادين إنتاج ثقافي أخرى- أننا أمام أرخبيل ممتد بمئات الجزر مختلفة الأحجام والطبيعة، تتباين المسافات فيما بينها.

وتجدر الإشارة إلى أني أكتب هذه الشذرات من موقعي كمتابع ومشاهد للسينما الجزائرية، ولكن أيضًا كصحفي حضر وواكب وكتب عن عددٍ من التجارب، وكعاملٍ اقترب من هذه “الصناعة” كوني مترجمًا عملتُ على سيناريوهات وحوارات لعددٍ من الأفلام. 

كما أن المقال لا يطمح ليكون حصرًا لكل المشهد السينمائي المتشظي، حيث أن العملية الإنتاجية بها سلسلة من الفاعلين لا مجال لذكرهم جميعًا، خاصة أن التركيز سيكون على المخرجين والمخرجات بما أننا نتطرق إلى سينما وثائقية وسينما مؤلف يقوم فيها المخرج بالدور الرئيسي من حيث تصور المشروع وكتابته والركض به من بابٍ لباب بحثًا عن التمويل والمساعدة.

الموجة؟

في الربيع الفارط، وفي مهرجان “رؤى الواقع” للأفلام الوثائقية بسويسرا، دُعِي المخرج الجزائري حسان فرحاني (1986) لتنشيط ماستر-كلاس حول السينما الوثائقية والأفلام التي أخرجها منذ حوالي 15 سنة. الجلسة التي دامت أزيد من ثلاث ساعات كانت فرصة لصاحب “دوّار في راسي” (2015) للحديث عن بداياته في السينما. بين المحاولات الأولى للتصوير في شوارع عاصمة بلدٍ خرج لتوّه من حرب أهلية، وبين نادٍ للسينما كان يُنشّطه مع مجموعة من الشباب والذي كان اسمه “كريزاليد” (أي “شرنقة”). 

في نفس النادي كان هناك أيضًا جمال كركار (1987) الذي عمل كمهندس صوت في فيلم فرحاني المذكور أعلاه، وليُخرج لاحقًا فيلمه الوثائقي الطويل الأول “أطلال” (2016) الذي يروي قصة قرية على حدود العاصمة عانى سكانها القتل والتهجير خلال الحرب الأهلية، وعادوا لاحقًا لتعميرها وزراعتها؛ هذا الفيلم أنتجه جابر دبزي (1989)، الذي كان في نفس النادي، والذي شارك خلال نفس الفترة في إنتاج الفيلم الروائي الطويل الأول لكريم موساوي (1976) “في انتظار السنونوات” (2017).

يمكننا الإشارة إلى أن أعضاء نادي “كريزاليد” كانوا يلتقون في قاعة سينما صغيرة، بأعالي العاصمة، تحمل اسم المخرج والممثل الراحل محمد زينات (1932-1995). لاحقًا، بعد بروز هذا الجيل من المخرجين، حملت أعمالهم إحالات وغمزات لفيلم زينات الأشهر والأوحد “تحيا يا ديدو” (1971)، وفي بعض الأحيان إهداءات مباشرة واستعادة لبعض المشاهد مثلما فعل لمين عمار خوجة (1983) في فيلمه الوثائقي الطويل “بلا سينما” (2014) الذي يتخذ من تجديد واعادة افتتاح قاعة “سييرا مايسترا”، وسط حي ميسونيي الشعبي بقلب العاصمة، سببًا لتصوير سيرك الحياة اليومية من حول القاعة التي ظلت مغلقة لسنين. 

وعمومًا، شهدت العشرية الثانية من القرن 2010-2020 صدور عدد من الأفلام الوثائقية والروائية، لمخرجات ومخرجين جزائريين، جعلت عددًا من الكتابات النقدية (في فرنسا والعالم العربي) تطلق أوصاف مثل “الموجة الجزائرية الجديدة” على عدد من الفنانين، الذين -في بعض الأحيان- لا يتشاركون سوى كونهم جاءوا من نفس البلد.. ولكن تلك قصة ثانية سنعود إليها.

وبإمكاني مواصلة ذكر عدد من الأفلام والمخرجين الذين ظهروا في نفس الفترة، على سبيل رسم خريطة تقريبية وليس على سبيل الحصر، فهناك مثلا تجارب روائية طويلة أولى لكل من صوفيا جاما (1979) في “السعداء” (2017) وياسمين شويخ (1983) في “إلى آخر الزمان” (2017).

زِد على هذا عدد من أبناء الجيل الثاني من المهاجرين الجزائريين، أو ممن كبروا في الخارج، والذين عادوا لإنجاز أفلام عن الجزائر أو للتمثيل، فعلى سبيل المثال هناك كريم صياد (1983) الذي عرفناه بـ “بابور كازانوفا” (2015) و”رجال وكباش” (2017) و”ابن عمي الإنجليزي” (2019). ثم إلياس سالم (1973) الذي اشتهر بإخراجه ولعبه في فيلمي “مسخرة” (2008) و”الوهراني” (2014)، ولاحقا بتشاركه للبطولة في فيلم أمين سيدي بومدين (1982) الروائي الطويل الأول “أبو ليلى” (2019) إلى جانب ممثل تكون في مسارح الجزائر وهو سليمان بن واري (1983).

في نفس السياق، وإن كان تقسيم السياقات بمن ولد هنا وولد في الخارج يزعجني قليلاً إلا أنّه ضروري لمعرفة تنوّع الأصوات ومن يقول ماذا ومن أي موقع، عليّ الإشارة لنبيل جدواني (1984) الذي بالتوازي مع تمثيله في أفلام للمخرج الفرنسي من أصل جزائري رابح عامر زعيمش، شارك حسان فرحاني في إخراج فيلم وثائقي في إطار الطبعة الثانية من المهرجان الثقافي الإفريقي في الجزائر: “فندق إفريقيا” (2011). لكن قيمة عمل جدواني في السنوات الأخيرة، وخاصة على الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، جاءت من المشروع الذي أتم العشر سنوات مؤخرا “الأرشيف الرقمي للسينما الجزائرية”، والذي يستعيد فيه جدواني -بمجهوده الفردي ومن ماله الخاص- أرشيفات بصرية وسمعية وورقية، متناثرة بين فرنسا والجزائر، لأفلام ووثائق بصرية تشهد على تاريخ السينما في الجزائر.

وطبعًا هناك ثلاثية المخرج الجزائري-الفرنسي نذير مخناش (1965): “حرملك مدام عصمان” (2000)، “فيفا لالجيري” (2004) و”ديليس بالوما” (2007)، والتي كانت بالنسبة لعدد من أبناء جيلي -مواليد نهاية الثمانينات والتسعينات- اكتشافًا للسينما، رغم أننا شاهدناها على التلفزيون وبالصدفة، خاصةً مع تواجد الممثلة بيونة (1952) كشخصية رئيسية في آخر فيلمين، حيث كنا اعتدناها ككومديانة في مسلسلات رمضان، وإذ فجأة نسمع أنها تؤدي أدوار راقصة متقاعدة في الفيلم الثاني وبائعة هوى قديمة في الفيلم الأخير.. كان هذا، بالنسبة للمراهق الذي كنته، هو الفرق بين السينما والتلفزيون.. التلفزيون للعائلة والسينما لغير العائلة.. أو للعائلة لكن كل واحد لوحده.

يمكنني أيضا أن أضيف الأعمال التي صدرت عن تعاون الزوجين المخرج داميان أورنوي (1982) وعديلة بن ديمراد، أولا في الروائي الطويل “قنديل البحر” (2016) ومؤخرا في “الملكة الأخيرة” (2022)، الذي يتناول قصة الملكة زفيرة زوجة أمير مدينة الجزائر سليم التومي، الذي اغتاله العثمانيون في القرن السادس عشر.. وهنا قد تكون أول محاولة سينمائية لأبناء هذا الجيل للإبحار بعيدًا، في المواضيع التاريخية، عن حرب التحرير والحرب الأهلية في الجزائر.

والبحر..

هناك مثلٌ جزائري يقول “اللي أدّاه البحر تجيبو الموجة”، وإذا سلّمنا بأنّ ما يحدث بالسينما في الجزائر آخر كم سنة هو موجة فعلينا أن ننتبه أن الموجة لا تأتي أبداً لوحدها.. بل هي سلسلة لا تنقطع من الموجات.. والموجة مجاز مناسب لوصف المشهد في الجزائر، حيث لا بُنى تحتية ولا مؤسسات عامة ولا خاصة ترسم معالم سوق أو حتى شيء شبيه بالسوق.. فكيف استمرّ هؤلاء الناس في صناعة أفلام في بلد ليس به مدارس للسينما ولا قاعات عرض؟

ربما كان أحد أسباب استمرار ظهور صنّاع سينما في الجزائر هو تعاقب الأجيال والتواصل -رغم صعوبته- فيما بينها، رغم أن الجيل في أغلب الأحيان لا يتعدى بضعة أفراد يحسبون على أصابع اليد الواحدة، يأتون من خلفيات متباينة. 

وهنا يمكننا الحديث عن صنّاع السينما الذين سبقوا من تحدثّنا عنهم أعلاه، ولا زالوا ناشطين إلى جانبهم.

سأختار بضعة أسماء أرى أنها ساهمت إمّا في جذب الأنظار إلى ما يصنعه الجزائريون من أفلام، أو في طرح أسئلة جمالية وسياسية مغايرة، أو -وهذا مهم- في كونها شيّدت جسورًا للأجيال الجديدة ونقلت لها خبرات وفتحت لها أبوابًا.

هناك مالك بن سماعيل (1966) الذي بدأ منذ التسعينات في إخراج أفلام وثائقية للسينما وللتلفزيون الفرنسي، وسار على نهج موثّقين كبار في أكثر أفلامه شهرة، فمثلا صنع فيلمه “الصين لازالت بعيدة” (2010) بتناول للقصة يذكرنا بالسوري عمر أميرلاي، وفي فيلميه “اغترابات” (2004)، و”اللعبة الكبرى” (2005)، حيث الأول عن مستشفى الأمراض النفسية في قسنطينة (مالك ابن بروفيسور معروف في هذا المجال) والثاني عن انتخابات 2004 الرئاسية بين بوتفليقة وغريمه -وزيره السابق- بن فليس، في هذين الفيلمين سار على نهج المصور والموثق الفرنسي ريمون دوباردون.

هناك أيضا كل من عبد النور زحزاح (1973) الذي لفت له الأنظار مرة أولى بفيلمه الوثائقي عن الدكتور والمناضل فرانز فانون سنة 2003، وهو ابن مدينة البليدة حيث عاش وعمل فانون، ثم لاحقًا بفيلمه الروائي القصير “قراقوز” (2011) الذي حصد عددا من الجوائز وتناول قصة محرك دمى يتنقل في مناطق جبلية لم تخرج تماما من الحرب الأهلية، وكان هذا الفيلم بالنسبة للجيل التالي رايةً تلوّح لهم من على ضفافٍ أخرى في العالم.. حسب بعض الشهادات الشخصية. لاحقًا، عاد زحزاح إلى الوثائقي بفيلمه “الواد الواد” (2013)، ويحضر منذ سنوات فيلمًا روائيا طويلا عن فرانز فانون خلال سنين عمله في مستشفى الأمراض النفسية في البليدة، الذي يحمل اسمه اليوم.

تجربة أخرى مهمة، انتقلت من الوثائقي في بداياتها إلى الروائي، وهي تجربة طارق تقية (1966)، الذي بعد أن حضّر أطروحة دكتوراه في باريس عن المصور الأمريكي روبرت فرانك، قام بتصوير عدد من الوثائقيات القصيرة طيلة التسعينات وحتى بداية الألفينات، قل أن تنطلق مسيرته بالروائي الطويل الأول “روما ولا نتوما” (2006)، وبالتعاون مع أخيه ياسين تقية -كادر في حزب سياسي وريث لشق من اليسار الجزائري- قام تقية بكتابة السيناريو وإنتاج الفيلم وتصويره بفريق صغير جدًا، وبالتعاون مع متحزبين أو متعاطفين مع الحزب، دون أن ننسى لمسة مدير التصوير الراحل ناصر مجقان.. وبهذه الطريقة “الهاوية” كما يصفها البعض تمكن تقية من حفر اسمه وصنع فيلمين فوق “حجر روما” الذي صار أحد كلاسيكيات الجيل، فجاء “قبلة” (2008)، وهو المفضل عندي، وبعده “ثورة الزنج” (2013).

وأخيرًا، وليس آخرًا، أكثر اسم أثّر على الساحة وعُرِف ليس بالأفلام فقط كما هو الحال مع أغلب المخرجين، بل أيضا بالنشاطات والمبادرات التدريبية والتعليمية التي أطلقتها، الشاعرة والمخرجة والنسوية حبيبة جحنين (1968). فيلمها الوثائقي الأول “رسالة إلى أختي” (2006) هو أكثر أفلامها شهرةً، حيث نتعرف فيه على قصة العائلة، والأخت النسوية نبيلة جحنين التي اغتالها الإسلاميون سنة 1995، لتعيش العائلة بعدها مأساة وتشهد رحيل عدد من أفرادها. حبيبة التي تركت الجزائر إلى فرنسا، عادت منذ بداية الألفينات، نشرت شعرها وبدأت عددا من المبادرات أشهرها “اللقاءات السينمائية لبجاية”. 

هذه اللقاءات-المهرجان التي مازالت مستمرة منذ 2003 إلى اليوم (ما عدا سنتي الكوفيد)، وهناك اكتشفنا عشرات الأسماء الجديدة من الجزائر والعالم، بين قاعتي “المسرح الجهوي لبجاية” و”سينماتيك بجاية”. وأريد الإشارة إلى أنني اكتشفت في طبعة 2015 فيلم روائي طويل أول رائع وأنجز من دون دعم لوزارة الثقافة (كما أتذكر أنه كتب في الجينيريك) بعنوان “راني ميت” لصاحبه ياسين محمد بلحاج (مواليد الثمانينات)، وفي اللقاءات سمعت لأول مرة عن مخرج وطبيب عاصمي يعيش في مارسيليا واسمه جميل بلوصيف (1972) أخرج عددا من الفيلم من بينها “جوع” (2010) قصة لقاء مهاجرين غير قانونيين أحدهما بوسني والثاني جزائري، و”بيردو” (2010) عن شارع بيردو في قلب العاصمة. 

ومن نفس المدينة واللقاءات انبثقت فكرة ورشات “بجاية دوك” (2006-2014)، التي كوّنت عشرات الشابات والشباب لإخراج فيلمهم الوثائقي القصير الأول، فيلم أول قصير عن المجتمع الذي يعيش فيه المخرج. لاحقًا، صارت حبيبة تقوم بالورشات في عدد من المدن في البلاد، ما عدا بجاية، وتحت مسميات جديدة آخرها “سينما ذاكرة”، لكن الهدف نفسه. حيث أعرف، شخصيًا، ما يربو عن العشرة تقنيين ومخرجين اكتشفوا مهنتهم الحالية بفضل ورشات جحنين. وأتذكر مثلاً، أنه في عام الحراك 2019، شاهدت في “سنماتيك الجزائر العاصمة” ستة أفلام وثائقية قصيرة هي نتاج ورشة عُقدت في تيميمون (مدينة في الصحراء الجزائرية) بين عامي 2017-2019. أتذكر مما شاهدت، فيلم وثائقي متوسط الطول مذهل عن راعيات أنعام في منطقة القبائل عنوانه “نوبة” لمخرجته صونيا كسي، وكذا فيلم “فلفل أحمر” لمخرجته سعدية قاسم. أسماء نسوية أخرى في السينما الوثائقية تخرجت من ورشات جحنين السابقة، نذكر منها ظريفة مزنر وبهية بن شيخ لفقون ومريم عاشور بوعكاز وإيمان صالح وأخريات.. وآخرين.

وجود هذا الجيل -جيل حبيبة وتقية وزحزاح وبن سماعيل- من المخرجين والمخرجات، سواء بإنتاجهم للأفلام أم بفتحهم المجال للقاءات السينمائية والورشات التدريبية، خلق مساحةً وإمكانية للاستمرار، غير مرئية للصحافة والمهرجانات الأجنبية التي تصل متأخرة لتعلن عن وجود “موجة جديدة”، لكنها أساسية وعضوية بالنسبة لمن يتابع المشهد هنا. خاصةً عندما نلاحظ تكرر تيمات الجنون والحرب الأهلية والهجرة كخطوط كبرى. لكن هذه الوحدة في الموضوع -زائد قلة الإنتاج بسبب ظروف السوق والتكوين- هي ما قد تعكس نمط مسيطر إخباري مسيطر على السينما التي تخرج من الجزائر، ففي أكثر من مرة تحصل الأفلام على التمويل والدعم فقط بسبب مناسبة معينة (ذكرى ثورة التحرير أو الاستقلال إلخ) فيبدو النوع الوثائقي كنشرة إخبارية مطولة عمّا يحدث في البلاد. لكن الجيل الذي خرج من ورشات جحنين كسر قواعد عديدة، خاصة مع “دمقرطة” الكاميرا والتقنية في بداية الألفينات، فصرنا نشاهد قصص أكثر حميمية وغير مرتبطة بأي خطوط تحريرية أو إنتاجية كبرى، وهنا إحالة لأحد الأمثلة، فيلم “سكنت الغياب مرتين” لمخرجته ظريفة مزنر، الذي أخرجته منذ عشر سنوات، والموجود على يوتيوب -بنفس العنوان- لمن يريد مشاهدته.

وعلى سيرة المشاهدة، أود القول أننا كجمهور مقيم في الجزائر، تمكننا من مشاهدة عدد من الأفلام الجزائرية القديمة والجديدة لأول مرة خلال فترة الحجر الصحي بين عامي 2020 و2021، عندما أتاحت بعض المؤسسات والمخرجين أفلامهم لبضعة أيام على منصات العرض. أذكر أنني شاهدت للمرة الأولى أفلامًا لمالك بن سماعيل، وأيضا الفيلم الوثائقي الأول للكاتبة الراحلة آسيا جبار “زردة أو أغاني النسيان” (1982)؛ وكذا عدد من المخرجين الشباب، منهم مثلا فيلم “اتهلا في روحك” -ترجمة شخصية لعنوانه الفرنسي المحرّف- (2017) وهو وثائقي طويل لمحمد لخضر تاتي، والذي عُرض في بعض القاعات بداية 2019 في الجزائر، ولكن العروض تزامنت مع انطلاق الحراك الشعبي، فلم أتمكن من الحضور. هذه الإتاحة التي تخطت مسألة الحقوق والمنتجين والمهرجانات ما كانت لتصير لولا الظروف الاستثنائية التي مرّ بها العالم.

في مديح الانقطاعات

قبل أن أختم أود الإشارة إلى أن أسماءً من جيل الروّاد لازالت حاضرة في المشهد إلى اليوم، وكل بطريقته. فهناك أحمد راشدي (1938) الذي أسميه “الراوي العليم” لتاريخ الجزائري الحديث، حيث يتواجد وراء الكاميرا منذ ما قبل الاستقلال -1962- وبعد الاستقلال بأفلامه الأولى عن الثورة التحريرية مثل “الأفيون والعصا” (1971) ومناصبه السيادية في مجالي الثقافة والسينما، ومؤخرًا بأفلامه عن أيقونات ثورية تمولها الدولة بأموال طائلة. 

ودون رغبة فعلية في مقابلتهما أو جعلهما مثالا وعكسه، هناك مرزاق علواش (1944) الذي كسر القاعدة مرّة أولى حيث أخرج سنة 1976 “عمر قاتلاتو“، الذي فتح به بابًا جديدًا للأفلام الجزائرية المتأرجحة بين بطولات الثورة ومآثر الاستقلال.. وعكس صديقه فاروق بلوفة (1947-2018) الذي أخرج فيلما روائيا طويلا واحدا اشتهر بين الأجيال اللاحقة وعنوانه “نهلة” (1979)، واصل مرزاق صنع الأفلام، في حين توقف فاروق. الاثنان انتقلا إلى باريس في أوقات مختلفة. مرزاق، وفي آخر عشرين عاما، كسر القاعدة مرة ثانية بصنعه أفلامًا بميزانيات صغيرة ومع وجوهٍ شابة (نذكر منها نبيل عسلي وعديلة بن ديمراد)، أفلام روائية ووثائقيات، تعكس نظرته هو “الكهل المهاجر” منذ سنين لمجتمع يغلي ويتحول رغم كل القيود.. قد ننتقد أفلام مرزاق ونظرته، لكننا لا ننسى حيويته وحركته ووجوده في المشهد. أتذكر مثلا خلال مسيرات الحراك في 2019، رأيته واقفًا بقامته القصيرة على الرصيف يحمل في يده كاميرا صغيرة ويصور المظاهرات.. هو الذي صنع فيلم “نورمال” 2011 عن رياح الربيع العربي التي لم تصل إلى الجزائر وقتها.

في الأخير، أودّ القول أني أفضل مصطلح “السينما في الجزائر” على “السينما الجزائرية”، الذي يراد به صنع تاريخ متكامل وخطي لهذا الفن في بلادنا. والسينما في الجزائر، كما نراها اليوم -عندما نكون محظوظين ونسكن العاصمة- هي بنت الآثار الصغيرة والمتقطّعة والتجارب المبتسرة أكثر منها بنت “السعفة الذهبية في مهرجان كان”، وهي في نضارتها ومفاجأتها للآخر ابنةٌ لـ “السلام الوليد” (1965) لجاك شاربي أكثر منها ابنة لفيلم “معركة الجزائر“، وهي ابنة للمخرجين المغمورين أصحاب التجارب الأولى المجهضة مثل محمد زينات الذي طلبت منه ولاية الجزائر صنع فيلم سياحي فأخذ الميزانية وصنع تحفة ظلت حبيسة أدراج الوزارة لعقود مثل “تحيا يا ديدو“، وابنةٌ للمخرجين الذين هاجروا لدراسة السينما ولم يعودوا أو منعتهم الحرب الأهلية أو نمط الحياة الممل تحت حكم الحزب الواحد.. تحيةٌ لابراهيم تساكي (1946-2021) الذي اكتشفته عند وفاته العام الماضي ببلجيكا ولفيلمه “أبناء الريح” (1981).

قراءةٌ غير خطية لهذه المصائر والسِيَر والأعمال، في انقطاعاتها وابتساراتها وتجريبها وفشلها ونجاحها، وظروف انتاجها القديمة بحضور الدولة ودعمها للسينما كأداة لنشر دعايتها وصنع سردية.. ولاحقًا بانسحاب الدولة وانفراط عقد الصناعة الناشئة وتشتيت المواهب المتبقية بين الجزائر وفرنسا بشكل أساسي، تُمكننا من فهم التحولات وصورة الأرخبيل المترامي الذي صارت عليه السينما في الجزائر، تُمكننا أيضًا من استيعاب أن رسم خريطة للانقطاعات والشتات والتجريب والدوران حول الثيمات الكبرى للحروب والبُعد والقُرب من المجتمع والسلطة أهم بكثير من فهم السينما في الجزائر كتراكمٍ للنجاحات والبروز في المهرجانات وحصد الجوائز.


صلاح باديس

يعيش صلاح باديس ويعمل في مدينة الجزائر. يستخدم الكتابة والصوت لرواية قصص، في الصحافة والأدب. نشر ديوان شعر (ضجر البواخر، ٢٠١٦) ومجموعة قصصية (هذه أمور تحدث، ٢٠١٩). وترجم من الفرنسية إلى العربية أشعار جان سِناك وكتبًا لكل من جوزيف أندراس وإريك فوِيار.

حقوق النشر

صورة الغلاف:

حبيبة دجاهنين – رسالة إلى أختي – من فيديو لصندوق برنس كلاوس
الزردة وأغاني النسيان – صورة أحمد سيجليماسي على فيسبوك
ملصق “بابور كازانوفا” لكريم صياد على منصة موبي
ملصق “رجال وكباش” لكريم صياد في الدورة ال14 لمهرجان الفيلم العربي بالبرازيل

%d مدونون معجبون بهذه: