أسباب مختلفة للإنصات

أحمد نبيل





ا
صوت تنفس جدتي المرتفع هو أول الأصوات التي لفتت انتباهي لطبيعتها المختلفة. كانت جدتي تعيش معنا في تلك الفترة من صباي. ولمرضها كانت تتنفس بصعوبة عندما تهم بالكلام أو تنتهي منه، وكأنها تقوم بعمل بدني شاق. كان يتخلل حواراتي القصيرة معها فواصل زمنية صامتة لالتقاط الأنفاس من جانبها. في تلك الفواصل كنت أسمع بوضوح صوت الهواء وهو يدخل ويخرج من جسدها الضعيف بشكل لاهث، بينما أتأمل ملامحها وتفاصيل وجهها متذكرًا القصص التي كانت تحكيها لي في طفولتي. ١

أتذكر وجه جدتي المجهد عندما أقوم باستخدام سماعات الأذن العازلة للصوت الخاصة بي، بالذات حين أضعها لتغطي أذناي بدون أن أشغلها. وهو ما يتسبب في أن أسمع صوت أنفاسي بوضوح. اشتريت تلك السماعات بعد بحث ومقارنة بين الأنواع المختلفة. كان هدفي هو محاولة تجنب تشتت ذهني بسبب الأصوات المحيطة في الأماكن المختلفة. حيث تتيح هذه النوعية من السماعات لمستخدميها خاصية إلغاء الأصوات المحيطة، أو معظمها. مما يسمح بالتركيز على الأصوات الآتية من السماعات نفسها. سواء كانت مادة موسيقية أو بودكاست أو رسالة صوتية. والحقيقة إن استخدام تلك السماعات أفادني كثيرًا. بل انتهى بي الأمر إلى استكشاف تجارب إنسانية جديدة. خاصة فيما يتعلق بالإنصات إلى رسائل صوتية مطولة من أصدقاء مهاجرين إلى بلاد بعيدة. حيث أصبح من الممكن أن أستمع إلى صديقي بشكل جيد أثناء المشي أو القيادة، متأملاً في نبرة صوته والأصوات المحيطة به، مما يتيح قدرة أكبر على استنتاج حالته النفسية وما يقصده بصرف النظر عما يقوله. ١

وكنت أجد في نفسي من قبل ضيقًا تلقائيًا عندما يضطرني موقف ما إلى الانتظار، خاصة بغير مبرر واضح؛ موظف متأخر عن عمله في مصلحة حكومية أو في عيادة طبية حيث لم يأت الطبيب في ميعاده. تحدث تلك الأمور كثيرًا ولكن يزيد من تعقيدها الأصوات المحيطة؛ تململ طفل مع أمه، أذان الصلاة من مسجد مجاور، مقطع فيديو على تليفون شاب منتظر، تبرم عجوز أتعبها الجلوس، آلات تنبيه السيارات. كلها أصوات من شأنها أن تدفعك في الوضع العادي إلى رد فعل ما. أو على أقل تقدير تشتت الأفكار. تختفي تلك الأصوات أو تخفت عندما أستخدم السماعات فأصير أكثر صبرًا وتركيزًا وأكثر قدرة على تأجيل أي رد فعل. بالإضافة إلى ذلك البعد الاستكشافي للعلاقة بين الصوت والصورة بشكل عام. ١


اختبرت هذا بالصدفة من قبل أثناء دراستي للمونتاج بمركز الجزويت الثقافي بالإسكندرية. كنا كطلبة في مدرسة السينما نقوم بالعمل على تدريباتنا الأولى في غرفة صغيرة جدًا في مبنى المسرح الإيطالي البديع الملحق بالدير. نصل إلى تلك الغرفة عبر الصعود على سلم دائري ضيق، ولا تتيح المساحة المحدودة للغرفة العمل لأكثر من شخصين بأي حال من الأحوال. ولسبب ما أثناء العمل انزلقت إحدى مقطوعات الصوت في برنامج المونتاج لتحتل مكان آخر غير المخصص لها. مما أدى إلى تغيير شريط الصوت لقطعة أخرى من شريط الصورة. وإذا بي أمر بتجربة لم أتوقعها لشريطين من الصوت والصورة لم يكن مخطط لهما أنا يتزامنا. وهو ما يتسبب في تجربة جديدة قد تكون مفاجئة لو لم تكن متحضرًا لها. كما يمكن أيضًا لتلك التجربة أن تكون شرارة فكرة في إطار العملية الإبداعية للشريط السينمائي المكون بطبيعته فقط من صوت وصورة. ١

تظل قدرتك كسينمائي على فصل الصوت والصورة نظرية، حتى تختبرها فعليا بوضوح. لن تفهمها بحق حتى تضطرك الظروف أو تدفع نفسك دفعًا إلى مساحة غير مريحة لتصل بعدها إلى معادلة جديدة أكثر إثارة. ينطبق هذا بالطبع على استخدام الموسيقى والصوت بشكل عام. فجملة موسيقية ارتجالية لناي منفرد أثناء مشاهدة لقطة لطفل متعلق بيد والده على شاطئ البحر الهادئ، لهي تجربة مختلفة عن مشاهدة نفس اللقطة وفي الخلفية صوت نورس عابر أو أغنية "ماشربتش من نيلها" لشيرين عبد الوهاب. ١

أصبحت هذه السماعات رفيقتي في العمل وأثناء المشي والتسوق وأثناء متابعة أبنائي في تمريناتهم الرياضية بل وفي المنزل. حيث تسمح لي استكشاف الموسيقى والأغاني والمواد المسموعة بجودة أفضل. ولاهتمامي منذ سنوات بممارسة التأمل واليوجا، أصبحت تلك السماعات أيضًا وسيلة فعالة لتحسين تلك الجلسات وتكثيف تأثيرها. في جلسات التأمل تلك هناك أسلوب يستهدف فصل الأصوات المسموعة عن بعضها ذهنياً. حيث يتعين عليك أن تحدد مصدر كل صوت بشكل منفصل، سواء كان مصدر الصوت قريبًا منك أو بعيدًا عنك. بل ويمكنك أن تقوم بعد مصادر الأصوات المختلفة والتي يتكون منها شريط صوت المكان التي تمارس فيه التأمل؛ فهناك صوت المطر وهو يرتطم بأسقف السيارات بجانب المنزل. وصوت الريح الذي يحرك الشجرة القريبة من نافذة الغرفة. وهناك أيضًا صوت الزنة الخفيفة الخاصة بمصباح الإضاءة في الغرفة حيث تجلس. تأتي هذه المرحلة كمناورة لتعطيل ماكينة التفكير الحمقاء ثم دفعها لاحقًا إلى التركيز على أعضاء الجسم المختلفة بالترتيب، ثم عمليتي الشهيق والزفير بشكلٍ واعٍ. الهدف هو محاولة تدريب الذهن على التوقف عن إنتاج الأفكار بشكل لا إرادي وبالتالي التحكم نسبيًا في المشاعر. يمكن لبضع دقائق في جلسة واحدة أن تغير من حالتك المزاجية وأن تدفعك إلى النظر إلى الأمور من زوايا جديدة لو نجحت في تقليل سرعة إنتاج الأفكار، بشرط ممارسة تلك الجلسات بإنتظام. ١

ولكنني على الجانب الآخر وجدت في نفسي قدرًا من الاستمتاع بلعبة استكشاف الأصوات المحيطة في حد ذاتها. حيث اتضح لي أن هناك عددًا هائلاً من الأصوات التي أعيش معها كل لحظة. وأصبحت أستلذ بالقيام بعد مصادر الأصوات المختلفة والتأمل في تناغمها أو تنافرها. بل وأصبح أمرًا أشير إليه أثناء التدريس. فعادة ما يغفل طلبة السينما أهمية شريط الصوت باعتبار أن الأفلام وسيطًا بصريًا في المقام الأول. فأجد نفسي أدفعهم إلى تأمل هذا القدر الهائل من الطبقات الصوتية، خاصة في مدننا العربية الصاخبة ذات الزخم الصوتي الكبير. ويروق لي في هذا الإطار الاستشهاد بإحدى محاضرات أستاذ الصوت السينمائي الكبير وولتر ميرش التي أقيمت في برلين، حين دلل على  أهمية الصوت في التاريخ الإنساني بأن حاسة السمع هي أول الحواس التي تتكون لدى الجنين في الرحم. ١

ولكن الأكيد على كل حال هو وجود معنى ما في المفارقة بين السهولة المطلقة التي يمكن بها للإنسان غلق عينيه، وبالتالي منع استقبال الصور الخارجية عن عقله، وبين الصعوبة النسبية أن يسد الإنسان أذنيه ليمنع تدفق الأصوات. لم أصل إلى المعنى بعد، ولكن المفارقة لا تكف عن إثارة تأملي. ١

مع محدودية العمل أثناء فترة التباعد الإجتماعي بسبب انتشار الوباء في ٢٠٢٠، وجدت نفسي مدفوعا لبداية مشروع بودكاست حول السينما التسجيلية الإبداعية. كانت العروض الجماعية ممنوعة ولم يكن من طريقة للحديث حول الأفلام سوى عن طريق الوسائل الافتراضية. فشرعت في تسجيل حلقات بودكاست "نضارة خشب" المتخصص في السينما التسجيلية الإبداعية. أكسبتني ممارسة كتابة وتسجيل الحلقات بعض الخبرة التقنية في المجال. وهو ما دفع شبكة الشاشات العربية البديلة لاحقا إلى الاستعانة بي للاستجابة إلى طلب الجامعة التونسية لنوادي السينما لتكوين ورشة تكوينية قصيرة لصناعة البودكاست السينمائي في تونس العاصمة. ١

خلال العمل مع المتدربين في صيف ٢٠٢٤، وبرغم تباين طرق الحديث والمواقف الطريفة بسبب الاستخدام المغاير لنفس اللغة بلهجتيها التونسية والمصرية، كان من المثير أن أجد أنه من الصعب مقاومة مساحة الحرية المهولة التي يعطيها لك المايكروفون. فمهما اختلفت توجهاتنا واهتماماتنا، تظل قدرتنا على الحديث بحرية ونحن وحيدون أمام أجهزة تسجيل الصوت دافعة لتداعي الأفكار وتناسي الخطوط الحمراء. ١

هذا ولم يفتني وأنا أتسكع في شوارع وحواري تونس أن أغلق عيني قليلا وأقارن بين طبيعة شريطي الصوت في تونس والإسكندرية. ١

أحمد نبيل

أحمد نبيل صانع أفلام تسجيلية، مبرمج أفلام، صانع بودكاست، ومُدرّس سينما يقيم في الإسكندرية. غالباً ما تتناول أعماله موضوعات الذاكرة، والغياب، والسير الذاتية. قام بتدريس السينما في عدد من المؤسسات، وعمل مبرمجاً لعدة مهرجانات سينمائية ومراكز ثقافية عربية ودولية. في مجمل ممارسته، ينجذب أحمد إلى أشكال الإنصات – كمنهج في صناعة الأفلام وكسبيل للتفاعل مع العالم. ١



نص أحمد نبيل هو تأملاته الشخصية حول رحلته إلى تونس ودوره كمرشد في ورشة "حكايات السينما". جاءت هذه الورشة بتكليف من شبكة ناس (NAAS)، وكانت محاولة لربط الخبرات وتعزيز التعاون عبر الشبكة. ١

جميع الصور تم التقاطها ونشرها بواسطة أحمد نبيل. ١



Copyright ©